سيكون من الخطأ الاعتقاد بأنه مع انتهاء الحرب الباردة انتفى الخطر الذي تمثله الأسلحة النووية، فالدول التي تملك السلاح النووي ما فتئت تطور ترسانتها وتزيد في توسيعها، فيما تواصل بلدان أخرى جهودها لاكتساب الأسلحة النووية، بل هناك اليوم احتمال مقلق لسقوط تلك الأسلحة في أيدي الإرهابيين، وبناء عليه قد يكون من المفيد النظر إلى العوامل التي دفعت جنوب أفريقيا إلى تطوير ترسانتها النووية إبان سنوات السبعينيات، والبواعث التي جعلتها تقرر لاحقاً تفكيكها في عام 1989. القصة بدأت عام 1974 عندما بدأ النفوذ السوفييتي يتوسع في الجزء الجنوبي من القارة الأفريقية، حينها قررت بريتوريا تصنيع عدد صغير من القنابل الذرية، والسبب أنه بعد انهيار المستعمرات البرتغالية في أفريقيا، انكشفت المناطق الصناعية لجنوب أفريقيا أمام هجمات جوية محتملة من البلدان المجاورة التي كانت تناصب جنوب أفريقيا العداء، لتصبح القوة الاقتصادية للبلاد معرضة لقصف جوي من حلفاء الاتحاد السوفييتي في المنطقة، وجاء نشر قوات كوبية في أنجولا خلال 1975 ليعزز هذه المخاوف الجنوب أفريقية ويُظهر مدى هشاشة البلاد أمام الهجمات الخارجية، وهو الأمر الذي دفع الساسة إلى التفكير في ضرورة إنشاء قوة ردع حقيقية، لا سيما في ظل العزلة الدولية المتنامية لجنوب أفريقيا، وعدم إمكانية الاعتماد على الدعم الخارجي في حال تعرض البلد لهجوم خارجي. وهكذا أنتجت جنوب أفريقيا ست قنابل ذرية صغيرة من النوع الذي استخدم في هيروشيما، وكانت الاستراتيجية أنه إذا ما تدهور الوضع في المناطق الجنوبية للقارة الأفريقية وساءت الأمور على نحو كبير، فإنه سيتم إعلام القوى الدولية الرئيسية وقتها بوجود الرادع النووي في محاولة لإقناعها بالتدخل ووضع حد للانزلاق، لكن لم تكن هناك قط نية لاستخدام القنابل الذرية التي كان ينظر إليها كسلاح للردع فقط، وعلى مدى السنوات الست عشرة اللاحقة ظل البرنامج النووي لجنوب أفريقيا أحد الأسرار الكبرى للدولة، وقد كنت خلال تلك الفترة منخرطاً في البرنامج باعتباري وزيراً لشؤون المعادن والطاقة. وما أن توليت الرئاسة عام 1989 حتى حثني وزير الخارجية، بيك بوتا، باتخاذ الخطوتين الأساسيتين لتحسين علاقة جنوب أفريقيا بالعالم، وفك العزلة الخانقة المفروضة على البلد. وكانت الخطوة الأولى إطلاق سراح نيلسون مانديلا، فيما كانت الثانية تفكيك السلاح النووي والانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي، وقد استقر رأيي بالفعل على اتخاذ الخطوتين، حيث عقدت العزم على إطلاق عملية راديكالية للتحول الدستوري الذي يستدعي أول ما يستدعيه الإفراج عن مانديلا والشروع في مفاوضات إقامة نظام تعددي ودستوري. وبالإضافة إلى ذلك انطلقت في عملية تفكيك الترسانة النووية لجنوب أفريقيا والتوقيع على معاهدة عدم الانتشار النووي، خاصة وأنه لم يكن من داع للأسلحة النووية في النزاعات الحدودية التي كنا نخوضها آنذاك، كما أن احتمال استخدامها ضد البلدان المجاورة لم يكن مطروحاً، هذا علاوة على التغيرات التي لحقت بالعالم مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانتفاء المخاوف التي كانت تطغى على جنوب أفريقيا خلال سنوات السبعينيات. ففي ديسمبر 1988 تم التوصل إلى اتفاق بين أنجولا وكوبا والولايات المتحدة يقضي بسحب 50 ألفاً من الجنود الكوبيين كانوا منتشرين في أنجولا ليعقب ذلك اتفاق لوقف إطلاق النار في البلد، وكان لانسحاب القوات الكوبية من أنجولا أثر بالغ في التمهيد لتطبيق خطة الاستقلال الأممية المرسومة لناميبيا، والتي كانت حتى ذلك الوقت خاضعة لإدارة جنوب أفريقيا بموجب تفويض يرجع إلى مرحلة عصبة الأمم. وقد سلط استقلال ناميبيا عام 1990 الضوء على النتائج الإيجابية التي يمكن تحقيقها من خلال المفاوضات حتى لو جرت مع الخصوم. ومع سقوط الاتحاد السوفييتي، واختفاء الانشغالات والمخاوف في جنوب أفريقيا أدركت أن الفرصة مواتية لبدء مفاوضات مع الدول المجاورة، وهو ما قمت به ورفاقي دون إبطاء. وبموجب الظروف الجديدة، لم يبقَ هناك من تبرير لدى جنوب أفريقيا للاحتفاظ بالسلاح النووي، حيث قررت عام 1989 تفكيك تلك الأسلحة والتخلص منها نهائياً ليتبع ذلك التوقيع على معاهدة عدم الانتشار النووي في يوليو 1991. ومع الأسف تظل جنوب أفريقيا الدولة الوحيدة التي قررت طواعية التخلص من قدراتها النووية، إذ رغم تظاهر الدول بالرغبة في تقليص ترسانتها النووية تبقى في الواقع بعيدة عن التطبيق، في حين أثبتت جنوب أفريقيا أن إرساء الأمن على المدى البعيد يتحقق من خلال إلغاء القدرات النووية أكثر من الحفاظ عليها، فأساس التهديدات الإقليمية والوطنية التي واجهتها جنوب أفريقيا قبل 1989 لم تكمن في الهشاشة العسكرية، بل كانت في التوتر المتصاعد بين السود والبيض الناتجة عن نظام الفصل العنصري، لذا لم يكن الحل في حيازة السلاح النووي وتطوير القدرات العسكرية بقدر ما كان في إلغاء الأبرتهايد والتفاوض لصياغة دستور جديد غير عنصري، واستلهاماً لتجربة جنوب أفريقيا على المجتمع الدولي التفكير ملياً في إمكانية التخلص من السلاح النووي، وهذا يتطلب دعماً أقوى لمعاهدة عدم الانتشار النووي وتحرك أسرع وأكثر مصداقية للدول النووية نحو تقليص ترسانتها وتفكيك مخزونها، حيث يتعين على العالم الوعي بأن الأمن الحقيقي لا يتحقق من خلال تعزيز قدرتنا على تدمير الآخر، بل من خلال قدرتنا على العيش معه على أساس متين من العدل والسلام. ------- إف. دابليو. دي كليرك الرئيس السابق لجنوب أفريقيا بين 1989 و1994 والحائز على جائزة نوبل للسلام في 1993 ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشونال»