لن يقع ضرر كبير إن أسس بعض الأفراد جمعية لهواة جمع الطوابع، وبعد تحصيل الاشتراكات وصرف مبالغ طائلة على تجهيز المقر، وطباعة الملصقات والمطويات، وإقامة الندوات وحفلات الشاي، وشراء الطوابع، دبّ الخلاف بينهم وذهب كل واحد منهم في حال سبيله تاركين الأعضاء وسط كومة من الطوابع. بالطبع هناك ضرر وقع، لكنه في المال والوقت والجهد، وربما يحدث ضرر معنوي باستخفاف الأعضاء بالعمل الجماعي والمدني. كما أن قيادات الجمعية ليسوا مضطرين لإزالة فكرة جمع الطوابع من رؤوس من انضموا إلى الجمعية بسبب التنظير للطوابع، إذ لا ضرر من اعتقاد شعب بأسره بأهمية الطوابع، بل على العكس، سيكون هذا رافداً من روافد وعيهم الثقافي وتحضّرهم، ولا ضرر أيضاً من كُفرهم بموضوع الطوابع بسبب أحداث الجمعية. لكن ماذا عن الذي يؤسس جماعة دينية تتبنى منهجاً للإصلاح والتغيير، ويجمع الناس من حوله، ويسير أتباعه في البدايات على منهجه، لا يحيدون عنه قيد أنملة، ثم يبدأ عقد القيادة يفرط من بين يديه، وينشب الخلاف بين الرؤوس الكبيرة، وتحدث الانشقاقات والانشطارات، حتى يجد أن اسم الجماعة يستخدم في أمور لا يقرُّها، فما هي حدود مسؤوليته وقتها أمام الله، والناس، والتاريخ؟ وإذا افترضنا سلامة نيّته في التأسيس معتقداً بأن جماعته ستؤتي أكلها كل حين، فهل يبقى ذلك الفرض صحيحاً لو نما إلى علمه بأن محسوبين عليه تورّطوا في أعمال لم تدر بخلده عند التأسيس، ثم آثر الصمت عن تلك الأعمال ومات ولم يعلن براءته منها؟ وألا يكون مسؤولاً لأنه لم يتخذ التدابير الكافية لئلا تنحرف جماعته، وكان من شأن ذلك الانحراف إحداث الفتن وإراقة الدماء وتشويه صورة الدين الذي أسس جماعته على هديه؟ وهل النيّة تكفي وحدها لتكون صكاً لبراءة ذمته من أي أمر خاطئ يحدث باسمه، أم أنه محاسب لأنه لم يقدّر الأمور حق قدرها، ولم يحسب حساب الانحرافات، ولم يكن مؤهلاً من الأساس لعمل كهذا، ولم يكن مكلّفاً به؟! ولا يثور التساؤل بشأن مؤسسي الجماعات فحسب، بل حتى الذين يحسبون أنفسهم مفكّرين ومصلحين، فهل يبقى هؤلاء مسؤولين عن أفعال المتأثرين بهم إلى يوم القيامة؟ وهل تنقطع صلتهم بالفكرة منذ لحظة تراجعهم عنها أو وفاتهم؟ وماذا يكون موقفهم لو جمّدوا نشاط جماعتهم بعد أن لاحظوا انحرافها، أو أعلنوا تراجعهم عن أفكارهم السابقة، لكن أجنحة من الجماعة أو المتأثرين واصلت العمل اعتقاداً منها بأن قرار التجميد أو التراجع إنما هو تكتيك ومناورة وتخلّص من الكلفة القانونية والسياسية لأعمالها؟ وقد يُقال إن الأنبياء أيضاً دعوا للإصلاح وقادوا التغيير، وكان من أتباعهم من ارتبكوا الفظائع باسم الله، وهذا صحيح، لكن لا يمكن تحميل الأنبياء تبعة ذلك، فهم لا يُقاسون بالعاديين من الناس، ذلك أن النبي لا يتصدى للتغيير من تلقاء نفسه، وإنما يبعثه الله، كما أنه مسدّد منه، ومع هذا التسديد الإلهي لا معنى للتساؤلات السابقة. ورغم أن المجتمعات التي لا تتغير تتحول إلى مجتمعات بدائية، فالسؤال هو: من يقود التغيير؟ وما هي مؤهلاته؟ وهل يدرك حدود مسؤوليته؟ وهل فكّر في موقفه غداً بين يدي الله وأمام أهله ومجتمعه؟ وكيف يخلّص نفسه من تبعة الأعمال التي يرتكبها المتأثر بفكره القديم الذي انقلب هو شخصياً عليه؟ يقال إن من يشعل الحرب يعرف متى تبدأ لكنه لا يعرف متى تنتهي، وهكذا الحال مع الجماعات والتيارات والدعوات، يعرف مؤسسها كيف تبدأ، وكيف تعمل، ولو عرف كيف ستنتهي، وكيف ستكون سيرتها بعد ذلك، لربما صُعق من مجرد التفكير في تلك الأسئلة.