قرار مصري تأخر كثيراً
تأخر القرار كثيراً، لكن أن يأتي القرار متأخراً خير من ألا يأتي أبداً، فقد عانت أرض الكنانة طويلًا من تنظيم جماعة الإخوان المتأسلمين الإرهابية، الذين جاء مولدهم على يد حسن البنّا عام 1928 لإضعاف وتشتيت المقاومة المصرية ضد الإنجليز، وقد دلت مختلف أفعالهم في تلك الفترة على ذلك، رغم إدعائهم الظاهري بأن الجماعة تنتمي لفئة المطالبين برحيل الاستعمار، غير أنهم تسببوا طويلا في صدع المقاومة المصرية، وتحدي بعض فصائلها، وتكفير البعض الآخر. وعندما رحل الاستعمار عن مصر، قرّر البقاء في شخص الجماعة التي لم تخذله أبداً، فقد عاثت فساداً وتقتيلا واغتيالا وتفريقاً بين أفراد المجتمع، وشككت الذين كانوا يناهضون الاستعمار من وجهة نظر دينية، في صحة عقيدتهم، بل ذهبت لتكفير كل المجتمع بطرق مباشرة وغير مباشرة، قياساً على الإسلام «المعدل»، الذي وضعته الجماعة مقياساً للحكم على عقيدة الفرد. غير أن المجتمع المصري ما لبث أن اكتشف حقيقة الجماعة التي بدأت معاداة مختلف الأنظمة، فالمجتمع المسلم في حكم الجماعة واعتقاداتها وعقيدتها، هو المجتمع الذي يحكمه «الإخوان»، ويتلقون منه البيعة المرشدية التي لا تكتمل العقيدة بسواها، ويغمض عينيه ويصم أذنيه عن أي تساؤل يرتبط بسلوك الجماعة، وأن لا يكون مؤمناً بالتقسيمات الاستعمارية التي يسمونها الأوطان، فالوطن الوحيد الذي يتوجب على المجتمع الاعتراف به، والعيش في كنفه، هو وطن الخلافة الإخوانية التي يحكمها الخليفة المرشد المشابه لآية الله العظمى في معتقدات الشيعة، وإلا فإن التكفير ونقصان التدين هو ما يمكن أن يتم إطلاقه عليه، وبموجب ذلك لابد من أن يعد له المستطاع من القوة ورباط الخيل لإرهابه وإخافته حتى من مجرد التساؤل عن كل ما يراه ويحسه، وهكذا كانت مسيرة الجماعة في عهد عبدالناصر ثم السادات فمبارك. فقد دفع السادات حياته ثمناً لثقته في الجماعة، متناسياً أن روحه لن تكون عند أفراد التنظيم المتأسلم في حال تعارضه مع مصالحهم، أغلى من روح مؤسسه حسن البنا الذي اغتاله تنظيم سري أسسه بيديه. وفي عهد مبارك نشطت الجماعة في فترات متقطعة وقامت ببعض التفجيرات التي استهدفت بها سياحاً أبرياء، كما قامت بتفجيرات عديدة هنا وهناك في أنحاء مصر. وعندما ثار الشعب المصري على نظام مبارك، وجدت الجماعة فرصة تاريخية في التسلق على أكتاف الثوار وسرقة الثورة، والوصول لكرسي الحكم لأول مرة في تاريخها الأسود الطويل. ولاستعجالها نشر دينها المعدل الذي يهدف لأخونة الدولة، ثار الشعب المصري مرة أخرى وأطاح بحكومة مرسي الإخوانية، ليتفاجأ العالم بالوجه الحقيقي القبيح لهذه الجماعة. فما بين فض فوضى اعتصامات رابعة العدوية، والتفجير الانتحاري الأخير الذي استهدف مقرات للشرطة في مدينة المنصورة، وأسفر عن مقتل 16 شخصاً، وجرح أكثر من 100 آخرين، ما أثار غضب الشارع المصري الذي ندد بهذا الفعل المشين المتكرر، وقالت الحكومة على لسان حسام عيسى، وزير التعليم العالي: «روعت مصر من شمالها إلى جنوبها بالجريمة البشعة التي ارتكبتها جماعة الإخوان المسلمين، وكان ذلك في سياق تصعيد خطير للعنف ضد مصر والمصريين وإعلان واضح من قبل جماعة الإخوان المسلمين التي لا تزال لا تعرف شيئاً سوى العنف». ما بين الحدثين (رابعة والتفجير الأخير)، عاش الشعب المصري أياماً مأساوية، فقد قامت الجماعة بمواجهة الشرطة والجيش، وأساءت لقادة الحكومة وللشعب في أكثر من مرة، وقامت لمرات عديدة باستهداف المجندين وقتلهم، كما تعمدت تعطيل الحياة العامة، وزيادة معاناة الشعب عبر التظاهرات اليومية، وشغل أجهزة الدولة السيادية بمناوشات مستمرة تشبه حرب العصابات، أو حروب الاستنزاف، والاعتداء المباشر على أفراد الشعب الأبرياء بواسطة «البلطجية». بعد كل ماجرى ويجري، أدركت الحكومة المصرية الجديدة بأن محاولاتها لإقناع الجماعة بالعودة إلى رشدهم ومنحهم الفرص المتتالية، ليست سوى أمنيات وأحلام لا يمكن أن تتحقق أبداً، بسبب أن الجماعة دائماً تفسر الأحداث على غير حقيقتها، فالمحاورة معها فسرتها بالضعف، والمبررات التي قادت لإبعادها عن السلطة بررتها بانقلاب على الديمقراطية، رغم رأيها الواضح والصريح في الديمقراطية التي كانت حتى وقت قريب، واحدة من بدع الكفار، وذلك عندما عجزت عن حملهم إلى بساط السلطة، وأصبحت الآن ضحية تدعي الجماعة انتهاكها، وتلبس ثياب المدافع عنها، بعدما تم عزلها عن السلطة، وهي الإزدواجية المعهودة التي عرف بها الناس هذه الجماعة التي لا يوجد أدنى رابط بين شعاراتها وأفعالها على أرض الواقع. وبعدما تأكد للحكومة أن إصلاح الجماعة المتأسلمة ميؤوس منه، قررت أخيراً مواجهة الحقيقة، التي سبقتها إليها محكمة مصرية حظرت نشاط الجماعة، وذلك بإعلانها جماعة الإخوان المتأسلمين جماعة إرهابية، تعتبر كل أنشطتها وتمويلها وحتى العضوية فيها جريمة يحاسب عليها القانون، وهي خطوة انتظرها الشعب المصري منذ أن كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يحكم مصر. ورغم أن الجماعة سارعت للتقليل من شأن القرار، إلا أن المراقبين يتوقعون أن تقف الجامعة العربية ذات الموقف، وهو ما تنتظره معظم الشعوب العربية التي عانت كثيراً من تصرفات هذه الجماعة التي خدعت بعض المجتمعات باسم «الربيع العربي»، وبعض آخر جرته كثيراً للوراء وأقعدته عن النهضة والتنمية والتقدم، وهو قرار يجعل قراءة الساحة الإقليمية والعالمية محفوفة بالكثير من الترقب، فإعلان الجماعة كجماعة إرهابية في بلد المنشأ، إعلان لابد وأن يشمل كل الفروع طالما أن الأيدلوجية واحدة، والتبعية واحدة، والمرشد واحد أيضاً، وهو قرار يضعنا أمام تساؤل كبير بشأن الجماعات الإخوانية التي تقاتل في سوريا والعراق، وغيرها من أرجاء المنطقة، وأيضاً الجماعات الجهادية الأخرى التي تناسخت في مسميات عديدة خرجت من عباءة الأصل الواحد المتمثل في تنظيم الإخوان المتأسلمين، والتي حاول التنظيم أن يشكل منها رؤوساً احتياطية لأخطبوطيته، حتى إذا ما تم قطع رأس منها، نبت رأس آخر، وهو دليل صريح وواضح على صواب ما قامت به بعض الحكومات العربية من إجراءات صارمة لمواجهة هذه الجماعة. وفي ذات الوقت يبقى التساؤل قائماً حول ما يمكن أن تنتهجه بعض الدول التي تدعم هذه الجماعة وأذنابها ومختلف نسخها التي تحاول استنساخ تصرفاتها وأفعالها في دول أخرى بعدما أفتى المجتمع الذي نشأت فيه وبدأت توالدها انطلاقاً منه بعدائها للإنسانية والتصاقها بصفة الإرهاب.