جبيرة المعارضة ومواسم التغيير
كان الراحل فرج فودة قد تحدث في أحد كتبه عما أسماه الدائرة المفرغة في دورتها المفزعة، ويشرحها بالقول إن حكم العسكر وغياب المعارضة المدنية، ينتهي بيد سلطة دينية، والتي لا تتزحزح من موقعها إلا بانقلاب عسكري، ليعود حكم العسكر في ظل غياب المعارضة المدنية، لينتهي الأمر من جديد بيد السلطة الدينية.. وهكذا. ولو استعرضنا التاريخ الحديث لعدد من الدول، لوجدنا الدائرة المفرغة اكتملت في مصر، وفي طريقها لأن تكتمل في دول أخرى.
حين تنحى مبارك بضغط «الربيع العربي»، لم تكن المعارضة المدنية مهيئة لتسلم الحكم، فانتهى الأمر بيد «الإخوان» والسلفيين، وبعد سنة من الفشل، لم تكن هناك قوة تستطيع الاستجابة لمطالب الملايين التي نزلت تهتف بإسقاط حكم «المرشد» سوى الجيش.
أما نظام شاه إيران والذي كان نظاماً بوليسياً بمسحة ملكية، فقد انتهى في غياب معارضة مدنية قوية بيد رجال الدين. ورغم أن دائرة إيران المفرغة لم تكتمل بعد، إلا أنه ليس الأفق ما يشي بأن معارضة مدنية يمكنها إزاحة رجال الدين وفرض نظام مدني، لأنه ببساطة ليست هناك ثمة معارضة مدنية قادرة على التغيير.
ثم كانت فترة الثمانينيات حين حاول العقيد النميري الالتفاف على الدائرة المفرغة بإيجاد نظام في السودان يضع الخوذة على رأسه ويلف جسمه بجبة، لكن محاولته تلك فشلت وإنحاز الجيش للشعب الذي انتفض ضده، وبعد سنوات قليلة، عاد العسكري ليحكم وإلى جانبه رجل الدين، ثم ما لبث أن فض هذه الشراكة واستأثر العسكري بالحكم. وفي التسعينيات كانت دائرة الجزائر، حيث ألغى الجيش نتائج الانتخابات التي جاءت لصالح الإسلاميين، ولا يمكن اليوم اعتبار النظام هناك نظاماً مدنياً في ظل سيطرة جنرالات الجيش على مفاصل الدولة.
وفي العراق أنهى حكم العسكر بالقوة العسكرية لصالح جماعة دينية. أما تونس، فيبدو أن دائرتها تأخذ طريقها، وكذلك في ليبيا، ولولا أن حكم العسكر العائلي الطائفي في سوريا وجد دعماً خارجياً هائلاً، لسقط في السنة الأولى من عمر الثورة السورية، ولم تكن هناك جهة مهيئة آنذاك لتسلم الحكم سوى جماعة «الإخوان».
ويلاحظ أن الفريقان يتبادلان المواضع بينما المعارضة المدنية تبقى في كل الأحوال غائبة. وما دامت هي كذلك، فلن يحدث شيء تحت الشمس سوى تبادل الأدوار بين هؤلاء وأولئك إلى ما لا نهاية، لتتحمل الشعوب الكلفة من قوت يومها، ومن سعيها نحو العيش الكريم، وتحقيق التنمية، وتوفير مستقبل أفضل لأبنائها.
وقد يقال إن المعارضة المدنية تغيب عن المشهد في اللحظة الحاسمة، نتيجة لأخطائها وتشرذمها والعناد الذي يركب رؤوس رموزها، وهذا جزء صغير من الحقيقة، إذ هي تغيب من قبل الطرف الحاكم، فلا العسكر يطيقونها بل يسعون إلى تكسيرها في فترات حكمهم، ولا السلطة الدينية تقبل بوجود معارضة من خارج منظومتها، بل صدرها يضيق حتى من معارضة «إخوانهم». وبينما يوجه العسكر في فترات حكمهم ضرباتهم للسلطة الدينية وللمعارضة المدنية معاً، فإن السلطة الدينية لديها مخزون استراتيجي من طاقة التحمل، ولديها من الآليات والأدوات وتوظيف المشاعر الدينية والتي تستطيع معها إبقاء جذوتها كامنة تحت الرماد إلى أن تحين الفرصة. والأمر نفسه ينطبق على العسكر، فحتى عند عودتهم إلى ثكناتهم في ظل السلطة الدينية، فإن القوة كفيلة بإعادتهم إلى الحكم تحت ضغط الجماهير التي تئن من حكم رجال الدين.
وفي الحالتين، وإلى ما لا نهاية، تتلقى المعارضة المدنية الضربات، وفي الوقت نفسه تحتاج إلى معجزة لتنهض من جديد، ومن ثم تكون يديها في الجبيرة طوال الوقت ولا تستطيع الجني في مواسم التغيير.