تمر تركيا حالياً بقضايا فساد متورط فيها مجموعة من أبناء الحكومة التي يرأسها أردوغان المنتمي إلى حزب «العدالة والتنمية». وقد أقر القضاء أوامر بملاحقة مجموعة من هؤلاء، من بينهم أبناء عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين ورؤساء مجالس إدارات البنوك والشركات. ويبدو أن الأزمة قوية إلى درجة أن أردوغان يحاول بطريقة يائسة تفاديها وحماية حلفائه الذين تمسهم عن طريق إحداث تغيير وزاري وإعفاءات من مناصب إدارية في الأجهزة التي يشغلونها، أو لها علاقة بالموضوع، خاصة وزارة الداخلية والأجهزة التابعة لها ووزارة الاقتصاد في عاصمة تركيا الاقتصادية إسطنبول. وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها الحكومة الحالية لهزة عنيفة، حيث تعرضت في صيف عام 2013 لموجة عارمة من الاحتجاجات والمظاهرات. ووفقاً لتصريحات أردوغان وتهديداته لخصومه، فإن اللوم لا يقع جميعه على الأتراك وحدهم، فالتغيرات الإقليمية والعالمية التي تقبض الأنفاس لها تأثيراتها أيضاً في الأزمات المتلاحقة التي تتعرض لها حكومة أردوغان، ولها تأثيراتها ودلالاتها الدرامية على تركيا برمتها. فخارجياً ما يحدث في سوريا ومصر والعراق والمواقف التركية منها لا تحمل معها تهديدات كبرى على الأمن التركي فقط، ولكنها تترك فراغ قوة إقليمي على الصعيدين السياسي والعسكري يفتح الأبواب على مصراعيها أمام إيران كقوة إقليمية طموحة لها أطماع توسعية ورغبات في الهيمنة تضع على إثرها تركيا في زاوية حرجة لمواجهة مثل هذا المد في الوقت نفسه، الذي كسبت فيه حتى الآن عداء قوياً من كل من مصر وسوريا، دع عنك جانباً الحكومة المتواجدة في العراق ذات الميول والأهواء الإيرانية. أما على الصعيد التركي الداخلي، فإن البلاد تتعرض لتطورات متلاحقة منذ زمن ليس بالقصير بدأت في تسعينيات القرن العشرين ساعدت على إيقاظ المرارات القديمة المتراكمة ضد الدولة. فمنذ ذلك الوقت، تتوالى موجات المد القومي والتطورات غير المسبوقة في آسيا الوسطى والخليج العربي ومصر وسوريا والعراق، استيقظت معها الاحتمالات الدفينة لقيام دولة كردية واحتلت مكاناً في المشهد التركي والإقليمي والعالمي، وذلك للمرة الأولى منذ فترة ما بين الحربين العالميتين، وزادت من حدة الصراع بين المؤسسة العسكرية والأكراد الذين يقطنون جنوب شرق البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، فإن منظومة متراصة من القلاقل السياسية بين العامة التركية والسياسيين الأتراك المنتمين إلى التيار الإسلامي، الذي تزيد من حدته حالياً مواقف هؤلاء السياسيين من «الإخوان المسلمين» والتيارات الإسلامية الأخرى في مصر وسوريا وربما دول عربية أخرى، يضاف إليه عدم المساواة الاقتصادية المتزايدة في أوساط المجتمع التركي، ومد قومي تركي فيما يعرف بـ «العثمانيين الجدد»، تزيد من تأجيج الأوضاع التركية، وتجعلها قابلة لانفجارات مدوية في المستقبل القريب. ما يحدث في تركيا حالياً يجلب إلى الواجهة وبشكل سريع المسائل الإشكالية القديمة الخاصة بالعلاقة بين الدين والدولة، والعلاقة بين الديني والعلماني في تسيير أمور الدولة والمجتمع في تركيا ويجعلها على رأس أولويات أجندة الحياة السياسية في البلاد وذلك للمرة الأولى منذ عقود طويلة مضت، وتحديداً منذ أن تمكن مصطفى كمال أتاتورك (أبو الأتراك) من إنهاء دولة الخلافة العثمانية وإقامة دولة علمانية تركية، همها الأول بناء الدولة والمجتمع من الداخل بعيداً عن أية التزامات أو تطلعات خارجية تفوق قدرات وطاقات تركيا. خلاصة القول إن الأزمة الحالية قد لا تطيح بحكومة أردوغان الحالية، لكن نجاح حزب «العدالة والتنمية» في البقاء في السلطة بعد الانتخابات القادمة أصبح محل شكوك حقيقية.