عندما يتعلق الأمر بالطعام والأزياء والقطارات السريعة، ثمة علامات تجارية قليلة يتم البحث عنها ومن بينها تلك «المصنوعة في فرنسا»، لكن عندما يتعلق الأمر بصناعة الامبراطوريات أو تفكيكها، لا تبدو باريس متخصصة بدرجة كبيرة، وخير مثال على ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى. فقبل ثلاثة أسابيع، عندما حاصرت الفوضى جمهورية أفريقيا الوسطى، فعل فرانسوا أولاند أفضل ما يفعله الرؤساء، حيث أرسل مجموعة من جنود المظلات. وأعلن أولاند، بمساعدة ضئيلة أيضاً من جيرانه الأوروبيين، عزمه حماية نحو مائة مواطن فرنسي في العاصمة «بانغي»، إضافة إلى نزع سلاح جماعتي «سليكا» و«ماشتي» المتقاتلتين. وعلى رغم ذلك، أثبتت الطليعة الأولى من الجنود التي بلغ قوامها 250 جندياً عدم فعاليتها، وعليه تم إرسال مزيد من الجنود وصل عددهم إلى الآن زهاء 1600 جندي، لكن عنوان صحيفة «ليبريسيون» الفرنسية اليومية «فرنسا في كمين أفريقيا الوسطى» يشي بأن هذا العدد لا يكفي تماماً. وإذا وصفنا جمهورية أفريقيا الوسطى بأنها «دولة فاشلة»، فإننا نعطيها أكثر من قدرها، فهي لم تكن دولة على الإطلاق، لا سيما أنها خرجت من رحم «أفريقيا الاستوائية الفرنسية» التي كانت مستعمرة فرنسية من بين مساحات أخرى شاسعة في نهاية القرن التاسع عشر. وتم تبرير الاستعمار الوحشي لهذه الأراضي تحت مسمى «بعثة التمدن»، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً، إذ أن الشركات الفرنسية، التي كانت حريصة على جني أرباح سريعة، لم تزعج نفسها أبداً بتطوير البنية التحتية الضرورية للنمو الاقتصادي على المدى الطويل. وعلاوة على ذلك، في ظل رقابة مديرين فرنسيين محليين، تعاملت هذه الشركات بوحشية مع السكان المحليين، حيث كان العمال الذين يتعرضون للضرب والجلد والإذلال يجبرون على تلبية حصص كبيرة من محصول المطاط. وأجبر كثير من سكان أفريقيا الوسطى في ظل الاستعمار الفرنسي على القتال والموت في الحربين العالميتين من أجل دولة لم تعترف بهم كمواطنين متساويين. واستقلت «أفريقيا الاستوائية» بعد الحرب العالمية عن الاستعمار الفرنسي في عدد من الدول، منها أفريقيا الوسطى التي كانت تعرف باسم «أوبانغي – شاري». وعقب الاستقلال بوقت قصير، لقي زعيم أفريقيا الوسطى الكاريزمي بارثيليمي بوغاندا حتفه في حادث طائرة لا يزال غامضاً، وهو ما يعتقد أنه من تدبير جهاز فرنسي سري لم يكن راضياً عن أساليب بوغاندا. وعلى مدار الأعوام الخمسين التالية، تعاقب على أفريقيا الوسطى حكام سياسيون يتبعون الخطط التي ترسم في فرنسا، وكان يتم السماح بالارتجال في بعض الأحيان ما لم يتعارض مع الاحتياجات التجارية الفرنسية والإملاءات الجيوسياسية. وعلى رغم ذلك، تعتبر العملية الأخيرة التي تقوم بها فرنسا تحت اسم «سانجاريس»، نسبة إلى فراشة أفريقية، ذات طبيعة مختلفة تماماً، إذ تعتبر «تدخلاً إنسانياً» بدعم من الاتحاد الأفريقي. ومع سقوط رئيس جنوب أفريقيا فرانسوا بوزيزي العام الماضي، تولى «ميشيل دجوتوديا» السلطة، ليصبح أول رئيس مسلم لدولة ذات أغلبية مسيحية، وهو ما أدى إلى زعزعة أي استقرار كان قد تبقى هناك. وفي 2013، صنف تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة جمهورية أفريقيا الوسطى في المرتبة 180 من بين 186 دولة، بينما تشير تقديرات منظمة «هيومان رايتس ووتش» إلى أنه منذ الانقلاب الأخير العام الماضي، لم يحضر نحو ثلثي الأطفال في مناطق محددة إلى المدارس، وتم ترحيل ما يربو على نصف مليون شخص. وعلى رغم ذلك، تقدر منظمة العفو الدولية أن ما يزيد على ألف شخص قتلوا منذ أن أرسلت فرنسا قواتها. وبالطبع تلاحق أشباح الماضي الاستعماري فرنسا، وفي حين لا يمكن تحميل حكومة أولاند مسؤولية الفوضى الحالية، لكن ذلك لا يعفي فرنسا من العبء الأخلاقي الذي تحملته عندما نشرت أعلامها في قلب أفريقيا. ـ ـ ـ ـ ـ ــ ـ روبرت زارتسكي أستاذ التاريخ الفرنسي بجامعة هيوستون ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم سي تي إنترناشونال»