تتحرك معظم المجتمعات في العالم لتغيير مصائرها السياسية، بدرجة أو أخرى بما يرصده الكُتاب كل عام. وتحتل أفريقيا دائماً مكانتها بين هذه الأحداث، بحكم تأثرها في السنوات الأخيرة بالأحداث العالمية على نطاق واسع، ولا ينافسها في ذلك إلا الشرق الأوسط، خاصة منه العالم العربي. وتقاس الأحداث المهمة في القارة بمدى تأثيرها على مستقبل هذا الشعب أو ذاك، أو شمولها للإقليم، أو تعويقها لتقدم محتمل، اقتصادي أو سياسي. وهذا ما نتوخى الإشارة إليه. ولا نستطيع إلا أن نبدأ مثلاً بالاختراق الفرنسي، في أنحاء مختلفة من القارة، وفي الصحراء الكبرى خاصة، فضلاً عن أفريقيا الوسطى، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل مثل معظم المتابعين لأحداث القارة، ولكن تهمنا هنا الدلالات الكبرى للحدث.. فعندما نرى التدخلات الفرنسية، في تزايد مطرد، في «مالي»، ثم أفريقيا الوسطى، لـ«حماية الديمقراطية» في الأولى، و«حماية المسيحيين أو المسلمين» في الثانية، فإننا نصبح أمام حضور يسترعي الانتباه... وقد كانت صيغة الحديث عما يسمى «الاستعمار الجديد» مألوفة في الثقافة السياسية الأفريقية، خلال نصف القرن الأخير، ولكنّ، ما أصبح لافتاً على مستوى أفريقيا ويعتبر اختراقاً حقيقياًَ لبنياتها وثقافتها الحديثة، هو ذلك التسليم غير المسبوق من قبل مؤسسات أفريقية بمنطق ودواعي التدخل الخارجي. وما يلفت النظر في الاختراق الفرنسي، هو ذلك الدعم الذي وجده بمشاركة التنظيم الإقليمي في غرب أفريقيا «إيكواس»، ثم من دول ومنظمات وسط أفريقيا... وقال البعض إنها ضرورة إقليمية، وللأمن الإقليمي الذي تعجز دول المنطقة عن تحقيقه، ولكن قرارات ومواقف ومظاهرة دول القارة جميعاً في مؤتمر القمة الفرنسي- الأفريقي في الأسبوع الأول من ديسمبر 2013، كانت مغايرة لآراء من كانوا ينتقدون «التدخل الأجنبي» من قبل، بل وكان بعضهم يسميه «استعماراً جديداً»، وإذ بهم يجدون مجموعة الفرانكفون تحشد أكثر من خمسين رئيساً ومسؤولاً ليدعموا السياسة الفرنسية التي تخضع هي نفسها لاختراق أميركي للدور الفرنسي ليكون تابعاً، بمعنى من المعاني! كان المفكر الأفريقي علي مزروعي قد طرح أوائل هذا القرن، فكرة «الاستعمار الجماعي» الأفريقي- الأفريقي، وعلى مستوى إقليمي أولاً، ليصير - لو استطاع - على مستوى القارة، ولو بعون أوروبي. وكان الرجل يحاول التفكير في سبل احتواء المأزق الأفريقي بمنطق جديد نسبياً... واتهمه كثيرون بسبب ذلك. ولا أدري ماذا يقول المفكر الأفريقي الآن عن أصدقائه وهم يحللون مشهد الاختراق الجديد! ولكن المشهد في الكونجو الديمقراطية يعتبر تطبيقاً آخر في وسط أفريقيا لما نراه في غرب القارة، فهناك قوات أجنبية قائمة منذ مدة باسم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وقد تطور دورها من «حفظ السلام» إلى التدخل لمساعدة «الدولة المضيفة» في ردع «حركة المتمردين» الكُثر في شرق البلاد، وكل ذلك بتفاهم مع أوغندا ورواندا لتحقيق «الاستقرار» في الكونجو، لأن رأس المال العالمي الذي يستثمر الكثير في هذه البلاد بدا قلقاً من استمرار «التوتر» هناك! وهذا يدخل في الثقافة القديمة عن أشكال الاختراق، أو ما يسمى بالاختراق السياسي، والجديد فهو الاختراق الاقتصادي؛ اختراق رأسمال العالمي لمنطقة «نهر الكونجو» بمساعدة جنوب أفريقيا في تهيئة مشروع سد «إنجا» الكبير جداً الذي يتطلب مساهمة مالية عالمية تصل إلى ثمانين مليار دولار لتستفيد جنوب أفريقيا من إنتاجه للطاقة أساساً. وهو رقم يصل لعشرين ضعفاً من «سد النهضة» الإثيوبي الذي يرعب دول حوض النيل! وهذا الاختراق الكبير للمشروعات المائية الكبرى، هو الذي يستحق، من وجهة نظر المنتقدين، اسم «الاستعمار الجديد» بكل الصيغ القديمة والحديثة... وإنْ كان عند البعض أيضاً شكلاً متفوقاً من «التعاون الدولي» و«العولمة الجديدة». ولا بد أن نضع ذلك فعلاً تحت نظر الدارسين لأنه يبقى أن نلتفت لمدى المساهمة المحلية والإقليمية في أي مشروع لقياس أهميته في تنمية مصالح الشعوب وليس مجرد استغلالها.. وقد نكون أمام مشروعات اختراق للعقل والفكر بقدر ما هو اختراق عملي لبعض الشعوب أو النظم الضعيفة. وقد كان بعضنا قلقاً منذ البداية على مصير دولة جنوب السودان الجديدة، سواء للقلق على طبيعة تعاونها مع السودان الشمالي أو طبيعة صياغة علاقتها مع دول شرق أفريقيا أو استثمارها للثروة البازغة من البترول وتنسيقها مع السودان بشأنها. وكان يرد القليل بين هذه الافتراضات عن احتمالات تزايد الصراعات الداخلية وتأثيراتها، وهل هي قبلية أم عرقية أم سياسية عسكرية، ولكن ما يمكن تسميته بـ «الصراع المحلي» اخترق فجأة كل الاحتمالات أواخر العام المنصرم ليحتل المقدمة، ويستدعي كل الصور بسرعة مذهلة، فها هو المنافس السياسي التاريخي «مشار» أمام القائد العسكري السياسي «سلفاكير»، بل ها هم «النوير» يخترقون قبائل «الدينكا» نفسها بتصدر «ربيكا قرنق» زوجة الزعيم الراحل للمشهد الدبلوماسي. وها هم عرب الشمال متهمون بعون هذا أو ذاك، وها هم الأميركيون يعلنون جاهزيتهم للتدخل ويرسلون الطلائع لهذا الغرض، وها هي القوات الأفريقية باسم كل ذلك، مثلما في الكونجو، تتحرك لضمان «استقرار» الموقف المضطرب بحدّة، ويظهر نجم شرق أفريقيا -أوغندا- في استعراض لافت للقوة إلى جانب الحكم القائم. والراهن أن جنوب السودان ملغوم بالمصالح بدوره من البترول، والمياه، والذهب، ومشروعاته في اتجاه شرقي أفريقيا.... والدولة لم تبدأ فيها إدارة حقيقية محلية، بينما يتصارع عسكريو «الحركة الشعبية لتحرير السودان» مع السياسيين، داخل الحركة في صراع جديد، من نوع خاص على المستوى الأفريقي. وثمة اختراق كبير آخر سيكون له تأثيره بالتأكيد على الفكر السياسي والمشروعات السياسية الكبرى في جزء كبير من القارة يمتد من السودان إلى مصر، ويشمل بالضرورة أجزاء أخرى من الشمال الأفريقي. ذلك هو «الإسلام السياسي» وحركاته ونظمه السياسية. لقد تم الاختراق الأكبر ضده في مصر طبعاً، بسقوط نظام «الإخوان المسلمين» في 30 يونيو 2013، وليس في 3 يوليو كما يشير البعض إليه دائماً. لأنه في الثلاثين من يونيو، وقفت الجماهير نفسها، دون أن تقدر مدى الدعم من هنا أو هناك، وهذا ما جاء إليها من الجيش في الثالث من يوليو. الاختراق الأساسي هو في المعنى الأول، أن الحركة الإسلامية التي بالغت في تقدير قوتها، كانت أمام الجماهير مباشرة.. وقالت هذه الجماهير كلمتها المعنوية أولاً، وهذا ما لا يريد أن يفهمه مفكروها واستراتيجيوها. وأنا أتحدث هنا عن «الاختراق الكبير» لـ«المسألة الإسلامية» والإسلام السياسي الذي قدم نفسه ممثلاً في حركة «الإخوان» التي سقطت في مصر! ومثل هذا الاهتزاز هو ما حدث في السودان تقريباً، مهما تمسكوا هناك بأنهم «النظام نفسه»... فهذا غير صحيح، لأن «حزب المؤتمر الوطني» لم يعد هو الحركة الإسلامية، إنه الدولة سواء رأيناه أفضل أو أسوأ، فالتهرؤ من داخله بعد انشقاقه عن الترابي نفسه، وهو ما يضع كل الأجنحة - بعد السقوط في مصر - وحتى بعد السقوط في سوريا والتفاوض الإيراني الأميركي.. كل ذلك يسقط دعاوى الإسلام السياسي أمام الاختراق الكبير... من داخلها... وخارجها. وما زالت أفريقيا.. تقول... هل من مزيد؟