حصاد الفوضى غير الخلاقة
حملت الصفحات الأولى لصحيفتي «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» هذا اليوم العناوين نفسها وأثارت ذات القضايا الرئيسية نفسها. فقد تناولت الصحيفتان وفقاً لما ذكرته «التايمز» ما سميتاه «فراغ السلطة» في منطقة الشرق الأوسط، واستنكرت أن تكون محاولات الولايات المتحدة على مدار عقد من الزمن لخلق نظام جديد قد انتهت بانفجار الوضع الإقليمي في وجهها.
وقبل عشر سنوات فقط من الآن خاضت القوات الأميركية عملية في الفلوجة، وتضررت المدينة كما ذكر ضابط بالقوات البحرية لأحد الصحفيين حتى صارت «مثل دريسدن» في إشارة إلى الخسائر الهائلة التي خلفتها قاذفات الحلفاء في تلك المدينة الواقعة بشمال ألمانيا في عام 1945، في أسوأ هجمة شهدتها أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية.
وقد تكون مقارنة ما حدث في الفلوجة بهجمة دريسدن تعبيراً ينطوي على شيء من المبالغة، حيث إن عدد سكان الفلوجة يبلغ 350 ألفاً فقط، بينما كان عدد سكان دريسدن يقدر قبل الحرب بنحو 650 ألفاً وزاد عن ذلك كثيراً بسبب موجات النازحين الذين فروا من الهجوم الروسي في الشرق.
وقبل الهجوم الأصلي على الفلوجة في عام 2004 تم قتل أربعة من المستكتبين التابعين لشركة «بلاك ووتر» الذين كانوا يرافقون قافلة للإمدادات على يد مجموعة من الغوغاء، الذين قاموا بحرق أجسادهم وتعليقهم على الجسر. وجاء الهجوم الأميركي بعد عام فقط من هذه الواقعة، لطرد المتطرفين «الجهاديين» من المدينة و«تلقينهم درساً» قاسياً.
ومنذ نهاية الأسبوع الماضي، عاد العلم الأسود الذي يتبناه تنظيم «القاعدة» وحلفاؤه إلى الفلوجة، ومرة أخرى، فر المدنيون من المدينة خوفاً من الاستيلاء عليها بالكامل وتدميرها، هذه المرة على أيدي الجماعات المتطرفة التي تقاتل الحكومة العراقية التي يترأسها المالكي.
وقد تم تحذير المالكي قبل مغادرة القوات الأميركية من أنه عرضة للخطر، وأن عليه إحداث توافق مع الأقلية السنية في العراق، التي حكمت البلاد قبل إطاحة القوات بنظام صدام. ولكن رئيس الوزراء لم يستمع إلى النصيحة، ورفض السماح لقوات أميركية بالبقاء في العراق بعد انتهاء الموعد النهائي للمعاهدة قبل عامين.
والسؤال الآن: ما الذي قاموا به في هذه الحالة؟ هل قاموا باستدعاء تعزيزات أميركية للذهاب إلى الفلوجة؟ لو كان ذلك وقع فمن شأنه أن يؤدي ذلك إلى بدء انخراط أميركي جديد في العراق مرة أخرى. ولكن هذه المرة لا يدور الصراع حول أفكار معلبة ضمن ما سمي الشرق الأوسط الكبير.
وقد ألقى هذا الشرق الأوسط الكبير بنفسه الآن في حرب أهلية طائفية. وفي السياق الإقليمي هنالك أيضاً بعض الدول السنية المؤثرة التي ترى خطر السيطرة الإقليمية من قبل إيران، المتحالفة مع «حزب الله» الشيعي في لبنان، والقريبة أيضاً من حكومة المالكي الشيعية، والتي تدعم النظام السوري بزعامة الأسد.
وأين تقف الولايات المتحدة وإسرائيل من كل ذلك؟ لا أحد منهما متأكد تماماً. ومع ذلك، فإن كلاً منهما أسهم من وجهة نظري الخاصة في زعزعة الاستقرار الذي كان موجوداً يوماً ما في المنطقة من خلال قرار بتدمير نظام صدام وحزب «البعث» الذي يتبعه. لقد حكم شعباً ذا أغلبية شيعية، ولكنه هزم أيضاً شيعة إيران (بمساعدة بسيطة من الولايات المتحدة، جاءت في صورة أسلحة وأجهزة استخباراتية عن طريق الأقمار الصناعية، انتقاماً من الإيرانيين الذين احتجزوا رهائن من الدبلوماسيين الأميركيين عقب الثورة في 1979.) وعلى رغم ذلك، فقد كانت هذه حلقة عرضية في سياسة واشنطن. أما الأمر الكبير فقد كان يتمثل في أن صدام كان هدفاً لكراهية المحافظين الجدد. كما كانت إسرائيل تستهدفه وتخشاه باعتباره زعيم أقوى دولة عربية. وقد تم اتخاذ قرار بإبعاده. وهذا خطأ كبير.
وقد جاء في النشرة الإخبارية لموقع «ديبكا فايل» الإسرائيلي هذا الشهر أن أعداء إسرائيل من المتشددين السُّنة قد تآزروا للاستيلاء على مناطق شاسعة من أراضي الشرق الأوسط، على طول خط يمتد بين بغداد وحتى دمشق وبيروت. وتقول مصادرنا العسكرية إن تصعيداً كبيراً للمواجهات العنيفة يتزايد... وقد يمتد إلى إسرائيل وبعض دول المشرق العربي.
وتستطرد النشرة الإخبارية قائلة: «تجد إسرائيل نفسها عالقة بين اثنتين من القوى الراديكالية المعادية والخطيرة، وكل منهما تجد الدعم القوي. فمن ناحية، تحرص إدارة أوباما على الحفاظ على التقارب بين الولايات المتحدة وإيران إلى حد دعم نظام الأسد الوحشي للبقاء في السلطة. ومن ناحية أخرى، فإن بعض القوى الإقليمية، الحليفة السابقة للولايات المتحدة، قد ترغب في دعم العناصر الإسلامية السنية المتشددة... من أجل عرقلة سياسات واشنطن الحالية. وفي هذه الظروف، تجد إسرائيل أنه من الصعب جداً تحديد من هم أصدقاؤها... ومن هم خصومها».
كما أن إدارة أوباما لا تعرف كذلك من هم أصدقاؤها -ولا تبدو حقاً وكأنها حتى تفهم، بالوضوح الذي يتسم به التحليل الإسرائيلي، ما هو الوضع الخاص بها. وكل ما يمكن للمرء قوله لأوباما هو أن التدخل العسكري الأميركي في المنطقة أصبح ضمن أسباب الفوضى الحالية. ولذلك، فإن النزعات الانعزالية لدى الشعب الأميركي، التي ظهرت مؤخراً عندما اندفع الرئيس وأراد أن يقصف سوريا، كانت نزعات سليمة. فلا تجعل الأمور تتدهور إلى الأسوأ.
-------
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»