ينبغي ألا تمثل ازدواجية أوباما بشأن استراتيجيته الخاصة في أفغانستان، التي وصفها وزير الدفاع الأميركي السابق «روبرت جيتس» في مذكراته بأنها متناقضة، أية مفاجأة. وعلى أية حال عندما ذهب الرئيس الأميركي إلى أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية للإعلان عن إرسال قوات إضافية إلى أفغانستان، أعلن أيضاً تاريخ الانسحاب بغض الطرف عن إنجاز المهمة. وفي الحقيقة، أن ما اعتبره جيتس تناقضاً يعتبر هو بداية التحول في السياسة الخارجية الذي كان لا يزال يتشكل عندما تقاعد وزير الدفاع السابق في عام 2011. وقد تحول الرئيس من شخص كان يعتبر -أو ربما كان يتوقع نفسه أن يكون- زعيماً ملهماً للعالم، إلى شخص لديه أقل سياسة واقعية، ربما أكثر من أي رئيس أميركي منذ عقود. وعندما تحدث أمام حشد ضخم في برلين كمرشح في عام 2008، بدا أوباما كما لو كان توسعياً، إذ أعلن «إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تنغلق على نفسها». وقال «إن هذه هي اللحظة التي يجب أن نستجيب فيها إلى الدعوة من أجل بزوغ فجر جديد في الشرق الأوسط»، مضيفاً «يجب أن ندعم اللبنانيين الذين يسعون ويضحون من أجل الديمقراطية.. علينا أن نُنقذ هذا الكوكب». وتابع «إن أعيننا على المستقبل، والعزيمة في قلوبنا، دعونا نتذكر هذا التاريخ، ونستجيب لمصيرنا، ونعيد تشكيل العالم مرة أخرى». ولكن بعد خمسة أعوام، أعلن أوباما صراحة أن تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان ليس في «جوهر الاهتمام» الأميركي، ورفض فكرة تدخل واشنطن في سوريا، حيث قتل ما يربو على مائة ألف شخص وأُجبر أكثر من ستة ملايين آخرين على هجر منازلهم، واصفاً إياها بأنها «حرب أهلية في دولة أخرى». وعلى رغم ذلك، لم يصبح أوباما أيضاً رئيساً انعزالياً، إذ واصل مساعيه الطموحة وراء الصفقات التجارية مع آسيا وأوروبا واتفاقية نووية مع إيران، وشن حرباً باستخدام الطائرات من دون طيار على الإرهابيين. ولكنه أصبح بعيداً كل البعد عن الوقوف إلى جوار أولئك الذين يناضلون وينزفون من أجل الديمقراطية، مفضلاً ما وصفه بأنه «بناء الدولة داخل الوطن». وبنظرة فاحصة على الماضي، كان إرسال قوات إضافية إلى أفغانستان يمثل ذروة وجهة نظر أوباما العالمية التي أعرب عنها في برلين، ولكن أفكاره الأخرى يمكن إدراكها في كيفية حديثه عن المهمة في أفغانستان: «إن القرارات التي تحمي الولايات المتحدة من تنظيم القاعدة، نادراً ما تكون متوافقة مع تعزيز الديمقراطية أو حماية المرأة الأفغانية». وكان أوباما حريصاً على سحب جميع القوات من العراق بدلاً من التفاوض على وجود قوات من أجل التدريب والدعم، وبعد المساعدة على التعجيل بسقوط القذافي في ليبيا، عن طريق حث الحلفاء على ذلك، نفض يديه وتخلى عن المهمة، تاركاً أية مهام دعم. وقد رفض أوباما نصائح مستشاريه عندما أوصوا بمساعدة المعارضة المعتدلة في سوريا، كما قلص التمويل من أجل تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط. ومن دون شك، يساعد الانهيار الاقتصادي الذي ورثه أوباما، إضافة إلى مزاج الأميركيين الذين ضاقوا ذرعاً بالتوسعات الخارجية، على تفسير تغيير الرئيس الأميركي لرؤيته، وهو ما تبرزه أيضاً إحباطات السياسة الخارجية في فترة ولايته الأولى. وعندما جاء أوباما إلى السلطة، كانت لديه ثلاث أفكار كبيرة، لم تؤتِ أي منها أكلها بشكل كامل. وكانت الفكرة الأولى أن سابقه ازدرى الدبلوماسية وأنه من خلال التقارب بعقلانية وأسلوب مقنع مع خصومه، يمكن لأوباما أن يحرز مزيداً من التقدم. ولكن رهانه على الرئيس الروسي ميدفيدف تبدد عندما اتضح أن بوتين لم يتخلّ أبداً عن السلطة بصورة فعلية. وتعامل الرئيس الصيني أيضاً مع أوباما ببرود في قمة المناخ في كوبنهاجن، وبدا الزعيمان الفلسطيني والإسرائيلي كذلك عصيّين على دعواته المتكررة من أجل تسوية لإحلال السلام. كما تجاهل الرئيس المصري المخلوع نصيحة أوباما بمشاركة السلطة مع المعارضة. وعاد من رحلته إلى الخارج من أجل استضافة شيكاغو لدورة الألعاب الأولمبية، خالي الوفاض. وقد قلصت هذه الإحباطات من نطاق فكرته الثانية الكبيرة، التي كانت تتمثل في تعزيز منع الانتشار النووي، وإخلاء العالم من الأسلحة النووية، غير أن المحادثات مع إيران لا تزال تمثل نقطة مشرقة محتملة في هذا الصدد. وفكرة أوباما الثالثة الطموحة كانت إعادة «التموضع» بعيداً عن المبالغة في القيمة الاستراتيجية القليلة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، لصالح الاقتصادات الأكثر حيوية في آسيا والدول المطلة على المحيط الهادئ. وعلى رغم إعلان أوباما عن السعي لتحقيق التوازن في الاهتمامات، إلا أن الاضطرابات في العالم العربي، والتهديد المتواصل -وربما المتزايد- من قبل تنظيم «القاعدة»، إلى جانب التخفيضات في موازنة الدفاع، تكالبت على تقييد نطاق أي تحول صوب هذا التوازن. وبالنظر إلى أن أوباما قَدِم إلى السلطة بخبرة ضئيلة في السياسة الخارجية، ليس من المثير للدهشة أن الأحداث يمكن أن تشكل رؤيته ومنظوره، وكان ينبغي القلق لو أنه لم يتحول ويتكيف مع المستجدات. غير أن تحوله عن النموذجية إلى ما يعتبره براجماتية ربما أثبت أيضاً أنه غير واقعي تماماً. ومع انتشار العنف واليأس من سوريا إلى العراق ولبنان ودول أخرى، ستضطر الولايات المتحدة على الأرجح إلى التدخل، ولكن بشروط أقل استحساناً مما كانت عليه قبل عامين أو ثلاثة. وربما يجد المرشحون للانتخابات الرئاسية في عام 2016 أنفسهم مضطرين إلى إعادة صياغة تصريحات أوباما في 2008. وقد قال أوباما عندما كان مرشحاً في ذلك الوقت «إن التاريخ يدفعنا إلى منعطف جديد، بما له من إمكانات جديدة واعدة ومخاطر محدقة». وأضاف «إن تغيير القيادة في واشنطن لن يرفع هذا العبء، وفي هذا القرن الجديد، سيتعين على الأميركيين والأوروبيين على السواء بذل مزيد من الجهود وليس القليل».