عمر الحياة
قام مدير «معهد الكربون 14» في جنيف، جيورج بوناني، بمهمة مثيرة حول عمر هرم «خوفو». وهو يزعم أن بناء هذا الهرم قد اكتمل قبل 400 سنة من كل الوقت الذي اتفق عليه الأركيولوجيين حتى الآن، والذين اعتمدوا في حساباتهم على أوتاد الوقت من علماء الهيروغليفية وكرونولوجيا القائمة الفرعونية. يريد المعهد استنطاق الفحم الموجود في ملاط الهرم؛ فهو اللغة الصادقة التي لا تعرف التزوير والتحريف والخطأ، ولا تحابي أحداً وليس لها مصلحة في أرضاء طرف على حساب آخر، كما يحصل في العادة للنصوص المكتوبة في التاريخ؛ فيخالطها الهوى والضعف والنقص البشري بكل إشكالياته.
أما الذي يعمل عبر الكشف عن مستحاثات يعود عمرها إلى ملايين السنين، فإنه يعتمد الساعة الأخرى (تحول البوتاسيوم إلى أرغون)، والتي يبلغ متوسط عمر تحول الذرات فيها نحو مليار وربع المليار من السنوات، فإذا كان عندنا ألف ذرة من نظير البوتاسيوم فإنه بعد (1.25 مليار سنة) ستكون عندنا 500 ذرة من نظير البوتاسيوم و 500 من الأرغون الجديد، وبعد 2.5 مليار سنة ستكون 250 ذرة نظير بوتاسيوم و 750 ذرة أرغون، وبعد 3.75 مليار سنة ستصبح 125 ذرة نظير بوتاسيوم و 875 ذرة أرغون... وهكذا، فكلما كان في المادة الأكثر من الأرغون والأقل من نظير البوتاسيوم أشار إلى ذلك إلى زمن سحيق، وكلما طفت كمية نظير البوتاسيوم إلى السطح أكثر كان عمر العظم أحدث وأقرب إلينا!
ومع ذلك فإن العلماء لا يعتمدون طريقة واحدة ينامون عليها، بل يبقون على الشك في المعلومات وإعادة تقييمها المرة بعد الأخرى، ويسعون لاعتماد طرق جديدة وتطوير معدات باهظة الثمن، حيث عمدوا مثلاً إلى استخدام المفاعلات النووية للتأكد من عمر العظام!
وفي هذا المجال فإن الفرق بين عظم يلقى وآخر يوضع في متحف لا تمسه الأيادي وتهز أخباره العالم والمحافل العلمية، كل ذلك متوقف على عشرة مخابر في العالم، تعطي الخبر اليقين عن عمر أي شيء يستحضر من الأرض، سواء أكان شجرة أو مومياء تراب أو هرم مستحاثة أو عظماً، فكله له عمر، ويمكن معرفة ذلك على وجه الدقة.
أحياناً يقف الانتروبولوجيون متوترين حول التحليل النهائي الذي يتقدم به عالم انتروبولوجي، كما كان الحال مع «تيم وايت» الذي اكتشف هيكل شاب أعطاه لقب أرديبثيكوس راميدوس (إنسان جذر الأرض)، ليعرف أن عمره زاد عن أربعة ملايين من السنين عدداً.
ولم تكن المفاجأة في العمر فقط، بل هناك من المعلومات ما يهز كل المسلمات التي يحاول العلماء الوقوف عندها، فالدماغ انتفخ مع الوقت، والأذرع قصرت، والجبهة تراجعت، وبرز الأنف، ودق الفم، وازداد طول الإنسان، وضاق حوضه وعرض، وتحدد الذقن ونحف، وتساقط الشعر، وتعلّم التعرق (خلافاً للكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، بسبب عدم وجود الغدد العرقية في جلده فهو يعوض عنها باللهاث والبخر)، وضمرت الأنياب، وبدأت العظام تصبح أرهف وأكثر رشاقة وأخف وزناً، وتحول القفص الصدري من الشكل القمعي إلى شكل البرميل المجوف، وتحسنت محاجر العينين، وجلس الوجه كله تحت الجبين، فازداد الإنسان إشراقاً وجمالاً، وضمرت المعدة والأمعاء، وتراجعت الحنجرة للأسفل وتكلم الإنسان فأصبح الكائن الذي يتصل بصورة راقية، فبنى المجتمع، وتطورت عنده الأحاسيس، مثل الرحمة والخجل والشجاعة والإيثار والتضحية، إذ لم نسمع عن قط أنه انتحر، أو عن فأر أنه أعلن الإضراب عن الطعام فصام... لكن الإنسان بإرادته يفعل ما يعاكس غرائزه التي تشكلت عبر الأحقاب.