كلمة واحدة فقط
أتخيل لو أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ظل طوال جلسات محاكمته على الجرائم التي ارتكبها بحق أهله وشعبه وجيرانه؛ لا يردد أمام قضاة المحكمة وكاميرات الفضائيات إلا كلمة واحدة: نعم أنا مذنب، وأطلب العفو والصفح. ولم يكن الماضي ليتغير بإقرار صدّام بالذنب وطلبه الصفح، فلا الحياة كانت ستدب في ضحايا القبور الجماعية، ولا الأطراف المقطوعة في حروبه ومغامراته كانت ستعود للجرحى والمعاقين، ولا الآلام التي تسبب بها طوال فترة حكمه كانت ستمحي بأثر رجعي عن المعذبين، بل إن الأدلة التي جمعت ضده كانت كافية لإيصاله إلى حبل المشنقة، سواء أقر بذنبه وطلب الصفح، أم أنكره وبقي يكابر حتى آخر لحظة، كما فعل على أي حال.
ومع هذا، فإن أحداً غير الله لا يعلم كيف كان سيؤثر ذلك الإقرار بالخطأ وطلب العفو على مستقبل العراق والمنطقة إلى عقود وربما قرون قادمة، وعلى نفوس العراقيين خاصة، والعرب والمسلمين بشكل عام. وإذا كنا نجهل أثر ذلك الإقرار على حساباتنا في الدنيا، فإننا أجهل بأثره على حسابه هو في الآخرة.
وفي أسوأ الفروض، فإنه لا يتصور أن ذلك الإقرار وذلك الاعتذار، كانا سيتركان أثراً أسوأ مما تركته المكابرة ورفض الاعتذار. كان يكفي ألا يصبح مستقبل العراق والمنطقة جزءاً من ذلك الماضي بكل آلامه وأحقاده وثاراته وشحنات الغضب والانتقام التي امتلأت بها الصدور، أو كان الماضي المُعتذر عنه سيكتفي بإلقاء ظلاله على الحاضر والمستقبل، والفرق بين الاعتبارين كبير.
سيناريو طي صفحة آلام الماضي بمجرد الإقرار بالخطأ والاعتذار عنه، كان يمكن أن يؤثر على شعوب بأسرها عانت من حكم الطغاة، ثم عانت بعد ذلك من تركة الشعارات التي كانوا يرفعونها ولم يتخلوا عنها حتى آخر لحظة، والآلام التي تسببوا بها ولم يعتذورا عنها أبداً، ففي أسوأ الأحوال لن يسمع ضحايا صدام أو القذافي وبقية الطغاة، من يكابر أمامهم بالدفاع عن أفعال أولئك الطغاة وترديد الأكاذيب التي كانوا يغلفون بها قراراتهم وأفعالهم.
من المستحيل أن ينسى المرء طفله الذي فقده، أو أباه، أو أخاه، لكن فرق بين ألا ينسى أحباءه، وبين أن تؤجج نار حسرته على فقدهم تلك اللامبالاة بمشاعره، بل الاستخفاف بعذابه والترحم على من تسبب في ذلك أمامه واعتباره بطلاً.
وإذا قرر بشار فجأة التنحي عن الحكم، أو أُجبر على ذلك، ثم أقر بالجرائم التي ارتكبها بحق شعبه، واعتذر عنها، فإنه لا يمكن الاستهانة بتأثير ذلك على مستقبل سوريا، وهو الأمر المستبعد حدوثه عموماً.
ومثل هذا يقال أيضاً فيمن حسبوا أنفسهم مفكرين ومصلحين، ثم أدركوا بعد حين أن أفكارهم قادت إلى وقوع فتن وجرائم، فإن تراجعهم عن أفكارهم وإعلانهم البراءة منها، كفيل بأن يسلم الناس من شرها، ويحول التراجع والبراءة عن ذلك المشروع «الفكري» إلى أن تناقص المؤمنون به بشكل فوري، ويحول أيضاً دون ظهور معتنقين جدد له، وحتى في حال ظهورهم، فسيبدون في نظر الجميع حفنة من الأغبياء مفتونين بفكرة كفر بها صاحبها.
الخطأ الكبير، والأخير، الذي يرتكبه الطاغية، هو أنه لا يقر ولو بكلمة واحدة بالأخطاء السابقة ولا يعتذر عنها، إن لم يكن من أجل شعبه ومستقبلهم، فحباً في عياله وأفراد أسرته الذين سيبقون من بعده، ليسددوا دَيناً يتراكم بلا نهاية.