قوة اليابان... التجدد والانبعاث
رغم الحديث المتواتر والمتشائم حول اليابان منذ دخولها مرحلة الركود الاقتصادي في الثمانينيات، فإن اليابان ما زلت ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وتبقى إنجازاتها الاقتصادية والاجتماعية ماثلة أمام الجميع في تحد باهر للمشكلات المستعصية. هذا التناقض بين خطاب الهاوية المبالغ فيها حول مستقبل اليابان، وواقعها المغاير الذي يؤكد استمرارها كقوة اقتصادية عظمى، هو ما يحاول مراسل «فاينانشال تايمز» في آسيا، ديفيد بيلينج، كشفه في كتابه «تطويع الملمات... اليابان وفن البقاء على قيد الحياة».
ولعل العنوان دال على مضمون الكتاب الذي يسعى إلى تفنيد المزاعم حول أفول اليابان وتراجعها دولياً. وفيما عدا التوصيفات التي لا تدعمها الحقائق والمعطيات، يستبعد الكاتب الذي عمل مراسلا في طوكيو لسنوات طويلة أي أفول قريب لليابان، مستنطقاً التاريخ لتفنيد تحليلات تستعجل نعي اليابان باعتبارها قصة نجاح أضاعت الطريق.
فاليابان على مر التاريخ نجحت في تجاوز أشد الأوقات صعوبة وفي تطويع الكوارث والأزمات المستعصية والخروج منها في كل مرة أقوى مما كانت. فقد كان الضغط الخارجي الذي مثلته القوى الغربية على اليابان في القرن التاسع عشر والتهديدات الاستعمارية حاسماً في دفع أسرة «ميجي» لإقرار الإصلاحات الكبرى التي حولت البلاد إلى قوة كبرى مطلع القرن العشرين ونقلتها من أرخبيل منعزل في المحيط الهادئ إلى عملاق اقتصادي وصناعي وعسكري ضخم. ثم جاءت الأزمة الكبرى بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية على يد الولايات المتحدة وتعرضها لضربة نووية دمرت بنيتها التحتية وعرضتها للعار والانحدار، لكنها استطاعات تجاوز تلك المرحلة القاسية بمساعدة أميركية، حيث تولت الولايات المتحدة إدارة السياسة الخارجية، وألغت الجيش، لينكب اليابانيون على مهمة إعادة البناء وترميم الذات وبعثها من تحت الأنقاض، لتبهر اليابان العالم باقتصادها العائد بقوة، وفي غضون عقود قليلة كانت شركاتها تغزو العالم.
ويشير الكاتب إلى المعطيات التي تظهر اليابان كقوة حقيقية، رغم اللغة المتشائمة، فمع أن الأرقام لم تكن جيدة خلال التسعينيات، فإنه انطلاقاً من مطلع الألفية الثالثة تحسنت المؤشرات الاقتصادية اليابانية على نحو ملحوظ.
فقد ارتفع الدخل الفردي في اليابان بنسبة 0.9 في المئة منذ سنوات 2000 بوتيرة أعلى مما شهدته الولايات المتحدة وبريطانيا، كما أن معدل البطالة حتى في أحلك فترات الركود لم يتجاوز 5.5 في المئة، بل انخفض إلى 4.1 في المئة خلال 2012، هذا بالإضافة إلى ميزة المجتمع الياباني الذي يتسم بالتماسك بين مكوناته وبانخفاض نسبة الجريمة. وقد استفادت الشركات اليابانية من موجة العولمة وصارت أكثر توجهاً نحو الأسواق الأجنبية بفروع واستثمارات في جميع أنحاء العالم، والنتيجة أن اليابان ما زالت ثالث أكبر اقتصاد في العالم بهامش مريح، ناهيك عن أن مواطنيها ما زالوا أغنى من نظرائهم في الصين بثماني مرات.
رغم ما كشفته كارثة التسونامي التي ضربت اليابان في 2011 من اختلالات كبيرة، وما نتج عنها من انهيار لمفاعل فوكوشيما النووي، تبقى اليابان قادرة على معالجة الأمر، لاسيما المشاكل المرتبطة بضعف معايير السلامة في المفاعلات النووية. فاليابان، يقول الكاتب، بنت نموذجها الاقتصادي لما بعد الحرب العالمية الثانية على ثقافة اجتماعية تتعامل مع الشركات على أنها عائلة أو مؤسسة اجتماعية يتم من خلالها توظيف الخريجين الجدد ليظلوا في كنفها حتى خروجهم للتقاعد مقابل ولاء تام للشركة، كما أن الترقي والصعود يتم على أساس الولاء وليس بالضرورة الأداء الجيد، لكن مع ذلك يثق الكاتب في مستقبل اليابان وقدرتها على القطع مع ممارسات بعينها، لاسيما أن التداعيات الاجتماعية تبقى محدودة في ظل ثقافة مجتمعية تنبذ العنف وتعلي من قيمة التماسك.
وبالإضافة إلى التحديات الاقتصادية، يشير الكاتب إلى رهانات خارجية ذات طبيعة جيوسياسية تتمثل أساساً في المخاوف اليابانية حيال صعود الصين في آسيا والمحيط الهادئ، معتبراً أن الوقت حان كي تواجه اليابان تاريخها بشجاعة، فلحد الساعة لم تعترف اليابان بأخطائها في الحرب العالمية الثانية، ولا بتجاوزاتها خلال تلك الفترة، الأمر الذي يثير حفظية الصين وكوريا الجنوبية، مقترحاً تصالحاً تاريخياً بين اليابان والصين يكون شبيهاً بتصالح فرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ليسدل الستار على تاريخ طويل من العداء والشكوك
المتبادلة.
زهير الكساب
الكتاب: تطويع الملمات... اليابان وفن البقاء على قيد الحياة
المؤلف: ديفيد بيلينج
الناشر: آلان لين
تاريخ النشر: 2014