ليس الفكر مجرد مجموعة من الأفكار طائرة في الهواء، يطلقها من يشاء، ويتلقفها من يريد بل ينطلق من الأرض في صورة أشخاص أو مؤسسات أو نظم اجتماعية. الفكر لا ينبع إلا في مكان ما، مدرسة فكرية أو مذهب عقائدي تتمثله مجموعة من الناس أو حزب سياسي يعبر عن تيار اجتماعي. الفكر إذن أجهزة قائمة، وآليات تعمل، ومؤسسات تنتج. وفي فكرنا القومي في علاقته بالمؤسسات نلاحظ الآتي: 1- غياب المؤسسات لا قيامها: نلاحظ في حياتنا القومية عدم وجود مؤسسات ينبثق الفكر من خلالها في صورة مدارس أو مجموعات أو أحزاب أو مؤسسات يصدر الفكر منها بالفعل. لذلك غاب في حياتنا القومية وجود مجمع أو مبلور Cristalizer للفكر ينجذب المفكرون نحوه، ويرتبطون فيما بينهم فيه ارتباطاً عضوياً، يتكاثرون من خلاله، ويتلفتون حوله، ويطورون أنفسهم بفضل حوارهم المفتوح فيما بينهم. وأغلب معاهدنا العلمية ومراكز أبحاثنا لا تتعدى مستوى الأكاديمية الصرفة وبالتالي أصبحت عاجزة عن التأثير في حياتنا. وإذا ما التزم أحدها مثل معهد للتخطيط أو مركز للدراسات فإنه يتم القضاء عليه لانحرافه عن الطريق وخروجه على النمطية السائدة. لا تعني المؤسسات سيادة البيروقراطية واللوائح والروتين بل تعني التنظيم الكفيل بسريان الحياة، كالبدن بالنسبة للروح، وكالعصب بالنسبة للإحساس. وقد تكون هناك مؤسسات فكرية ولكنها قد تهدف إلى الدعاية أو إلى تبرير الوضع القائم أو إلى الوعظ والإرشاد مثل بعض أجهزة الإعلام أو المؤسسات الدينية أو وزارات الثقافة والإرشاد القومي، ولكن المؤسسات التي يظهر الفكر من خلالها هي المدارس الفكرية التي تتكون داخل المعاهد العلمية والجامعات ومراكز البحث والجمعيات الثقافية والاتحادات الأدبية ومراكز الثقافة والجامعات الشعبية الحرة. فالفكر القومي ليس البحث الأكاديمي الخالص ولا هو الدعاية والإعلام.