مصر وتونس... ودروس الماضي
بعد سنتين من تجربة الإسلاميين في تونس، غادرت «النهضة» سدة الحكم وأدركت قياداتها أن مواصلة التجربة قد تقضي على وجودها السياسي خلال الفترة المقبلة. ويبدو أن الحركة استفادت جيداً من الدرس المصري لتخرج بأقل الأضرار خلافاً لـ«الإخوان» في مصر. وفي مصر، أعلن رئيس اللجنة العليا للانتخابات، المستشار نبيل صليب، نتيجة الاستفتاء على الدستور، وقال إن 98,1 في المئة صوتوا بـ«نعم»، وإن عدد المشاركين في الاقتراع غير مسبوق.
هذه كلها أخبار سارة ونجاحات يصفق لها. ولكن دعونا نرجع بعض الشيء إلى الوراء لنذكر ببعض المراحل المريرة التي نتمنى ألا تتكرر. في تونس أجريت انتخابات أكتوبر 2011 من أجل خلق مجلس تأسيسي لوضع دستور جديد، إلا أن «الترويكا» التي كانت تحكم وقد أفرزتها نتائج الانتخابات، جعلت إسلاميي «النهضة» يتربعون على المشهد السياسي وآلت إليهم رئاسة الحكومة، ولاحظ البعض خلال جلسات «المجلس التأسيسي» أن نواب حزب «النهضة» في تعاملهم مع القوى المعارضة كانوا يتحدثون معهم من منطق الوصاية، أي الحقيقة المطلقة، وبقي الوضع السياسي متذبذباً بين اليسار واليمين، ولم يمكن ذلك من إحداث التعايش المطلوب بين الإسلاميين والعلمانيين في ظل «الترويكا»؛ والأدهى من ذلك أن أوج الخلافات التي كانت سائدة في الجامعات التونسية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بين مختلف الأطياف الطلابية، عاشها ويعيشها اليوم اللاعبون داخل المجال السياسي العام، أي بين حركة «النهضة» ذات اللون الديني والتيارات اليسارية المعارضة؛ كما أنه يمكن القول إن التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين كان لصالح الإسلاميين الذين أفرزتهم صناديق الاقتراع في الانتخابات. أما العلمانيون، بما في ذلك حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» وحزب «التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات»، فهم لا يمثلون إلا قلة قليلة، ولا يمثلون إلا فئة محدودة من التيارات المناهضة للإسلاميين... والتيارات اليسارية تجلس على «الربوة» حسب أقوال أحد قياديي حركة «النهضة».
وتونس مقارنة مع مصر من حيث عدد السكان دولة صغيرة جداً وسكانها في أغلبيتهم حضريون وتخوض الآن تجربة صعبة وانتقالاً ديمقراطياً ليس بالهيّن... ونتمنى بعد الدروس المستقاة من مصر، أن يبتعد الجميع عن الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين لتنتهي التجربة التونسية إلى صياغة عقد اجتماعي بين جميع الأطراف، قائم على فكرة الإجماع والتعاقد، ودولة لمجتمع جديد هو المجتمع المدني، أي مجتمع المواطنين المؤسس وصاحب الحق العام في رعاية كل الحقوق والواجبات وإحاطتها بضمانات الاستمرار.
في مجال العلوم السياسية المقارنة، يمكن للحزب السياسي الفائز، والحاصل على الدرجة الأولى أن يسعد بثقة الناخبين الذين صوتوا له وأن يسيّر الدولة باسم الشرعية الانتخابية التي حصل عليها، ويزود النظام السياسي بعوامل الحيوية والتقدم، ويكون الولاء للوطن الأم وللنظام المدني (الانتخابات وحكم الشعب بالشعب). أما أن يعتبر الفائز في الانتخابات أن الدولة «غنيمة انتخابية»، فذلك نوع من الطامة الكبرى المنذرة بالاستبداد والسلطوية العاتية، وهذا ما كانت تسير إليه مصر في عهد «الإخوان».
والحال أن اعتبار الدولة «غنيمة حربية» هو مغالطة إيديولوجية للناخبين، الواعين أو حتى غير الواعين لذلك، وإفساد للعملية السياسية وتزوير للتمثيل الاجتماعي، فيكون على الدولة ما بعد انهيار النظام السلطوي السائد أن تتحمل بذوراً جديدة لنموها غير الطبيعي، يتغذى من حيث تتغذى السلطويات القديمة، ولكن في صورة وألبسة جديدة.
وأظن أن الاعتقاد بأن الدولة «غنيمة حربية» متأصل عند بعض ممثلي الأحزاب الإسلامية في مصر. ولا ننسى هنا أن جماعة «الإخوان» بعد سقوط مبارك وذراعها السياسية «حزب الحرية والعدالة» امتنعا عن وضع دستور قبل إجراء الانتخابات التشريعية عكس العديد من القوى الليبرالية والتقدمية والوطنية التي شددت على تشكيل لجنة لوضع مسودة الدستور في ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ظانة أنها ستضمن نوعاً من التوازن والتوافق على ثوابت الدولة في ظل انتقال ديمقراطي صعب المسار... فكان الدستور المصري لما بعد مبارك يسميه البعض بدستور الغلبة، والآخر كان يسميه بفتنة الدستور، مع العلم أن الدستور يجب أن يكون هو القانون الأسمى للبلد، وهو عقد ضمني للاقتناع المشترك بين جميع الساكنة، وإلا إذا صوّت عليه في مجتمعات لم يتسرب إليها بعد الإحساس بالواجب الانتخابي والوعي السياسي الصحيح، فإنه سيبقى محطة للنزاع والشقاق، ومصدر صداع للرأس لا ينتهي... فكيف يمكن بعد ذلك أن نتحدث عن القوانين التنظيمية والقوانين العادية وتسيير المؤسسات والدستور المصادق عليه محط نزاع دائم؟!
إن المشهد السياسي المصري في عهد مرسي كان مثيراً للقلق والخوف عن مآل التغييرات السياسية المرجوة، فلا يمكن اعتبار الدولة غنيمة انتخابية وهي الفكرة التي تجيز للإنسان باسم الاستعلاء الفكري أو المذهبي أو الإيديولوجي القيام بما لا يرضي الآخر، أو بما لا يرضي الجائز والمعقول في الديمقراطية الحقيقية.
ففي هذه الحالة، وفي بيئة انتقالية معقدة، تنتقي أهداف الحوار وتتوقف، وحتى إذا كان هناك حوار فلن يقود إلى نتائج إيجابية مشتركة: «أقول له: عمرو... فيفهم خالداً ويكتبها زيداً... وينطقها سعداً). فالحلبة السياسية المصرية كانت حينها سنتين بعد الثورة، ومعركة صعبة اجتمعت فيها التناقضات السياسية والفكرية والإعلامية النخبوية والشعبوية الهدامة، ونزاعات على السلطات والمناصب والتاريخ والمستقبل، ونتمنى اليوم بعد هذا التذكير بذلك المأزق المر الذي كان بالإمكان اجتنابه لو كانت الحكمة متوافرة، نجاحَ المجال السياسي العام الجديد، ولله عاقبة الأمور.