مع بداية عام 2014، فإن المسح المحدود لوسائل الإعلام الإقليمية والدولية، يؤدي إلى نتيجتين فيما يخص منطقتنا. 1- أن معظم وسائل الإعلام هذه لا تزال تعتبر أن ما يسمى «الربيع العربي» هو من أهم أحداث الشرق الأوسط على المستوى الإقليمي أو حتى الدولي، ومن ثم نرى أن ذكره يزيد كثيراً في هذه الوسائل الإعلامية عما يحدث بالنسبة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، رغم زيارات جون كيري (وزير الخارجية الأميركي) المتكررة إلى المنطقة، أو حتى المباحثات حول التسلح النووي المحتمل في إيران. 2- الحديث المتزايد عن التعثر في عملية التحول الديمقراطي، إن لم يكن الفشل في هذه العملية. فقد تم التخلص من بعض رؤساء الحكم السلطويين، لكن بعضهم لا يزال متمسكاً بالسلطة مهما كان الثمن، كما هو الحال في سوريا، أما البلاد التي بدت كما لو أنها دخلت حقبة جديدة من تاريخها، مثل مصر تونس وليبيا واليمن، فإنها تواجه تحديات ضخمة وتكلفة اجتماعية واقتصادية عالية تلقي بظلال من الشك العميق حول جدوى عملية التحول الديمقراطي نفسها. والسؤال الرئيسي الذي يهمنا نحن هنا في هذه المنطقة، وأكثر كثيراً من الخارج: لماذا هذا التعثر، الذي قد يسميه البعض الفشل؟ من المسؤول عنه؟ محاولة الإجابة على ذلك التساؤل ذات أهمية قصوى، لأن الأمر يتعلق ليس فقط بحاضر المنطقة بل بمستقبلها أيضاً. لذلك فقد يكون من المفيد فتح باب النقاش ليس بين كتاب صفحات «وجهات نظر» فقط، ولكن أيضاً بين القراء أنفسهم، وسأبدأ بنفسي في ذلك لعلّ نقاشنا هنا يكون جزءاً من «هندسة اجتماعية» تسهم في استخلاص الدروس وتصحيح المسار. أولاً: هناك إجابة خطأ على السؤال، ولذلك يجب استبعادها حتى لا نضيع مزيداً من الوقت في العثور على الإجابة السليمة، فالرد بتبني شائعة تقول إن المسؤول الأول عن تعثر التحول الديمقراطي هم العسكر، في ظاهره يبدو رداً سليماً: فالعسكر هم من يقومون بحماية نظام بشار الأسد، كما أن الجيش هو من تدخل في مصر واعتقل -حسب هذه الرواية- أول رئيس مدني في مصر! لكن الجيش لا يحسم في اليمن أو ليبيا، ومع ذلك فإن هذين البلدين من أكثر بلاد «الربيع العربي» تعثراً. في رأيي أن سيطرة عناصر الجيش هي أحد أعراض التعثر وليست السبب. السبب الرئيسي يكمن في فشل الجماعات السياسية الرئيسية في تأسيس مؤسسة حكم سليمة ثم توجيهها ناحية عملية ديمقراطية مستمرة. وكان الفشل في السابق من جانب الأحزاب السياسية التقليدية التي شكلت المعارضة، والتي إما تعاونت مع الحكم السلطوي من خلف الستار، أو لم تنجح في تأمين قاعدة شعبية قوية تضمن لها الوصول للحكم. من هنا لم يجد العسكر السلطوي صعوبة في تهميشها أو قمعها، ولذلك جاء «الربيع العربي» خارج هذه الأحزاب السياسية. ماذا إذن عن الجماعات التي دشنت «الربيع العربي»، مثل الشباب، أو استفادت من وجوده ووصلت إلى الحكم، مثل الإسلاميين أو حركات الإسلام السياسي؟ ثانياً: بالنسبة للشباب، فهم فعلاً كانوا وقود «الربيع العربي» وطاقته المتفجرة، فعن طريق منظماتهم الخاصة أو عبر المشاركة مع المنظمات الاحتجاجية الأخرى، مثل «كفاية» في مصر أو المنظمات العمالية في تونس، قاموا فعلاً بدور نشط وطليعي، لكن هؤلاء الشباب لم تنقصهم الخبرة فقط، بل إنهم استسهلوا الأمر واختزلوه في مغادرة الرئيس، لذلك لم يقدموا أي برنامج عمل، وبالتالي فقدوا الكثير من التأييد الشعبي وسهَّلوا الأمور على عناصر الثورة المضادة للإطاحة بهم. ثالثاً: أما بالنسبة للإسلاميين، فهم -على عكس الشباب- لهم قاعدة شعبية وتجربة طويلة في العمل السياسي، ولو أن ذلك كان في السر وتحت الأرض، لذلك فقد استطاعوا الفوز بسهولة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وسيطروا على البلاد كما حدث في مصر. لكن بدلاً من الاستفادة من قوتهم هذه في التواصل مع القوى السياسية الأخرى وتشكيل ائتلاف وطني حاكم، قاموا باحتكار السلطة حتى دون وجود الكفاءات اللازمة لديهم لإدارة البلاد وشؤون العباد، والنتيجة انقلب الكثيرون ضدهم وقامت المظاهرات من أجل الإطاحة بهم، وبالتالي كثفوا من تقسيم قوى المعارضة وإضعافها، وكانت النتيجة زيادة الفراغ السياسي الذي لم تستطع الجماهير قبوله إلى الأبد، فطالبت هذه الجماهير الجيش بالتدخل لخلق نوع من الاستقرار وتوازن العملية السياسية. فشلت هاتان الجماعتان الرئيسيتان إذن في أخذ تحديات عملية التحول الديمقراطي مأخذ الجد، ومواجهتها عبر إقامة ائتلاف وطني واسع وقوي يقوم بإعداد وتنفيذ برنامج عمل للخروج من المرحلة الانتقالية بكفاءة كافية. فهل هناك سبيل آخر غير هذا الائتلاف الوطني المفقود؟ وما هو الطريق إلى قيامه الآن؟