25 يناير... ومصير «الربيع» العربي
تحل الذكرى الثالثة لانتفاضة 25 يناير المصرية السبت القادم بعد خمسة أسابيع على إحياء باهت ومتوتر لمثيلتها التونسية التي بدأت في 17 ديسمبر 2010، وقبل أيام على الموعد الذي بدأت فيه الانتفاضتان اليمنية والليبية قبل ثلاث سنوات أيضاً. فقد بدأت أحداث ما أطلق عليه «ربيع» عربي بين ديسمبر 2010 وفبراير 2011، في فصل الشتاء الذي تبين أن ما حدث في هذه البلاد الأربعة أقرب إلى طابعه وطقوسه. فلم تورق الأشجار وتتفتح الزهور في هذه الدول، بل اكفهر الجو واشتدت الغيوم. هذه هي الصورة التي يراها كل متابع لما آلت إليه بلاد ذلك «الربيع» بعد ثلاث سنوات على اندلاع انتفاضاته في شتاء 2010 – 2011. وربما لا تخلو هذه الصورة من عبث في عيون من تعودوا النظر إلى حال العرب بنظارة قاتمة. فالانقسام العميق يهدد المسار السياسي في تونس من وقت لآخر. كما فعل انقسام مماثل فعله المدمّر في مسار ديمقراطي صعب بدأته مصر عقب 25 يناير، الأمر الذي أعادها مرة أخرى عند مفترق طرق في وضع يسوده ضباب مازال مخيماً بعد إقرار دستور جديد واعد.
وفي الحالتين، لم تؤد إطاحة رئيسين إلى فتح الطريق نحو مستقبل تتحقق فيه الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وقل مثل ذلك عن اليمن، التي خرج الرئيس السابق فيها من السلطة بطريقة مختلفة أبقته حاضراً بشكل غير مباشر في مرحلة انتقالية يبدو تجاوزها صعباً. فالحوار الوطني، الذي لا بديل عن نجاحه للتحول إلى وضع أفضل، يراوح مكانه مع اقتراب مرحلة الانتقال من نهايتها. أما ليبيا، التي كانت نهاية الدكتاتور فيها هي الأشد مأساوية في الحالات الأربع، فمازالت غارقة في فوضى الانتقال البالغ الصعوبة من حالة ما قبل الدولة إلى وضع يتيح بناء هذه الدولة بدءاً بتفعيل المؤسسات التي أقيمت وصولا إلى تكوين جيش وطني موحد لا يمكن الحديث عن دولة في غيابه.
لذلك فالسؤال البديهي بعد ثلاث سنوات على ما بدا للجميع أنه «ربيع» عربي بدأت شمسه تشرق بعد طول انتظار هو: هل غابت هذه الشمس مجدداً قبل أن تسطع أو أوشكت على المغيب، أم أن ما يحجبها الآن هو ضباب قابل للانقشاع؟ وبعبارة أخرى: هل فشلت الانتفاضات التي بشّرت بربيع عربي وانقضى الأمر، أم أنها مازالت قابلة للنجاح وتحقيق أهدافها في وقت ما مستقبلا، لكن بعد جولات من الصعود والهبوط والتقدم والتراجع وعبر موجات ينتصر بعضها وينتكس البعض الآخر؟
من الطبيعي أن تختلف الإجابات على هذا السؤال الصعب وفقاً لتباين طرق التفكير وزوايا الرؤية، وحسب تطورات الأوضاع في البلاد التي مازال مستقبلها غير واضح وفى مقدمتها مصر التي سيؤثر الطريق الذي تسلكه على الدول الثلاث الأخرى. لذلك يجوز اعتبار الحالة المصرية كاشفة لمستقبل «الربيع» العربي في مجمله.
ولعل إحدى أهم المفارقات في مسار «الربيع» المصري هو أن الشكوك في إمكان تحقيق أهدافه ظلت مستمرة عقب موجته الأكبر في 30 يونيو 2013 رغم أن هدف هذه الموجة كان استعادة الطريق الذي أغلقته جماعة «الإخوان» عندما وصلت إلى السلطة. فرغم أن موجة 30 يونيو تعتبر امتداداً لانتفاضة 25 يناير، لا يخفى أن فئات لا يُستهان بها في المجتمع المصري لا ترى الأمر على هذا النحو. فموجة 30 يونيو تتجاوز الانتفاضة الأساسية لدى بعض هذه الفئات أو تلغيها في تصور بعض آخر منها. ولا تقتصر هذه الفئات على من أفادهم الانغلاق السياسي في عهد مبارك فتصدروا المشهد الانتخابي فيه. فقد أُصيب قطاع لا بأس به من المصريين بإحباط نتيجة عدم تحقق أي من أهداف انتفاضة 25 يناير، التي لم يروا منها حتى الآن إلا تداعياتها السلبية من انفلات أمني وتدهور اقتصادي أدى إلى ارتفاع في الأسعار وزيادة في البطالة.
لذلك أصبح السؤال عن مصير «الربيع» المصري، وبالتالي العربي، مطروحاً بقوة في ذكراه الثالثة. فهل مازال ممكناً تحقيق أهدافه بعد أن فرَّغها حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة من مضمونها خلال المرحلة الانتقالية الأولى (11 فبراير 2011-30 يونيو 2012)، ثم صادرتها جماعة «الإخوان» عقب انفرادها بالسلطة؟
الإجابة القاطعة صعبة على أسئلة المستقبل عموماً، وحين يكون السؤال مطروحاً في لحظة ينعدم فيها اليقين بصفة خاصة. والحال أن مصر اليوم عند مفترق طريقين يقودها أحدهما إلى الأمام وفق أهداف انتفاضة 25 يناير، التي اندلعت موجة 30 يونيو لاستردادها، بينما يأخذها الثاني إلى الوراء بما يؤدي إلى إعادة إنتاج الوضع الصعب الذي سبق ثورة 2011 وكان هو السبب الرئيسي وراء وضع أشد صعوبة سبق موجة 2013.
غير أن هذا البؤس وذاك قد يكونان دافعين للتمسك بالطريق الذي يقود إلى المستقبل، خاصة في حالة استيعاب دروس السنوات الثلاث المضطربة والاستناد على التحول التاريخي الذي حدث منذ يناير 2011 وما يقترن به من ثقافة سياسية جديدة تقوم على التمسك بالحقوق الاجتماعية. وحتى إذا استمر عنف «الإخوان» الذي يزيد الخوف لدى قطاعات متزايدة من الشعب ويدفعها لتفضيل تقليص مساحات الحرية السياسية، يمكن أن يظل الإصرار على الحقوق الاجتماعية التي اندلعت من أجلها انتفاضة 25 يناير مستمراً.
فالحرية هي أحد أهداف أربعة لهذه الثورة. أما الأهداف الثلاثة الأخرى فتتعلق بالحق في العيش والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وليس متصوراً أن يفرِّط المصريون في التطلع إلى هذه الحقوق، حتى إذا اضطر بعضهم أو حتى الكثير منهم إلى التخلي عن الحرية مرحلياً تحت ضغط الخوف من عنف «الإخوان» وإرهابهم. وقد يكون هذا دافعاً للتفاؤل بمستقبل مصر، التي يُرجح أن يحدد نجاح مسارها السياسي الراهن من عدمه مصير «الربيع» العربي في مجمله. ولا يعني ذلك التقليل من مغزى القلق الذي يشعر به المتفائلون بهذا المستقبل. فالساحة السياسية خالية في وقت يُفترض أن تملأها الأحزاب والقوى المدنية عملا ونشاطاً لملأ فراغين في الواقع وليس فراغاً واحداً وهما الفراغ المترتب على انحدار جماعة «الإخوان» التي سعت للهيمنة على الدولة ومفاصلها، والفراغ الناتج عن تفكك سلطة ما قبل 25 يناير. وهذا الفراغ هو أكثر ما يثير القلق على مستقبل «الربيع» المصري، رغم أن أي تهديد له لن يكون أقوى مما واجهه في ظل حكم «الإخوان».