كتب توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، قبل عام من وفاته: «أحبوا جيرانكم مثل أنفسكم، ودولتكم أكثر من أنفسكم»، لكن مَن مِن جيرانه كان مشمولاً في خطته للدولة التي أحبها كثيراً؟ شمل جيفرسون بصورة ضمنية المسلمين في صياغته الوطنية للقاعدة الذهبية، وإن كان كثيرون ربما يجدون هذه الفكرة مثيرة للدهشة في الوقت الراهن، لكن الدليل دامغ على وجودها. ففي عام 1776، كتب جيفرسون هذه الكلمات المحورية بين ملاحظاته الخاصة: «لا ينبغي استثناء الوثنيين أو المسلمين أو اليهود من الحقوق المدنية للكومنويلث على أساس دينهم». وكتب جيفرسون هذه الكلمات بعد وقت قصير من إعلان الاستقلال، عندما عاد إلى فيرجينيا من أجل صياغة قوانين دولته. واستعار جيفرسون سابقة «الحقوق المدنية» للمسلمين من كتاب «رسالة بشأن التسامح» الذي كتبه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في عام 1689. وقد أثارت أفكار لوك بشأن التسامح مع المسلمين واليهود هجمات ضده، إذ اتهمه أحد النقاد باعتناق «عقيدة الأتراك»، كما اتهمه خصومه أيضاً -على نحو صحيح- باقتناء نسخة من القرآن، والذي وصفوه بـ«إنجيل محمد». وبسبب آراء جيفرسون بشأن الحرية الدينية والمساواة السياسية، كان يُهاجم بصورة متكررة، وفي أحيان كثيرة كانوا يتهمونه بأنه «مسلم». ومثل لوك، كان جيفرسون يقتني نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم، اشتراها في عام 1765، وهو في الثانية والعشرين من عمره، وذلك أثناء دراسته القانون في جامعة ويليامسبيرج. ووثقت صحيفة محلية شراء جيفرسون مجلدين لترجمة معاني القرآن الكريم أعدها الإنجليزي جورج سال، وكانت الطبعة الأولى لترجمة سال، والتي نشرت في عام 1734، أول نسخة تُترجم مباشرة من العربية إلى الإنجليزية. وتضمنت النسخة «فصلاً تمهيدياً» من 200 صفحة يشمل نظرة عامة على العقيدة والشعائر والتشريعات الإسلامية. ولعل جيفرسون كان مهتماً بالقرآن ككتاب للتشريعات والقوانين، لاسيما أنه في ذلك الوقت طلب كثيراً من كتب القضاء الإنجليزي، وربما الأمر الذي جذبه هو تعريف المترجم للنبي محمد بأنه «مشرع العرب». ورغم أن سال اتهم الإسلام خطأ بأمور ليست فيه، فإنه امتدح النبي بأنه جميل في ذاته، حاد في ذكائه، ذو سلوك رفيع للغاية، يبدي تواضعاً للضعفاء والفقراء وبشاشة للجميع، وثباتاً ضد أعدائه، وفوق كل شيء إعلاءً لـ«اسم الله». كما رفض المترجم وصف الإسلام بأنه «انتشر بحد السيف وحده». لكن منتقدي «سال» اتهموه بأنه أفرط في عدالته عند وصفه للإسلام، ونتج عن ذلك نأي أصحاب العمل الذي كان يعمل لصالحهم بأنفسهم عن ترجمته، بينما اتهمه المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون في عام 1788 (بعد وفاته) بأنه «نصف مسلم». وعموماً فقد كان من يدافعون عن الإسلام أو معتنقيه يتعرضون لانتقادات لاذعة على ضفتي الأطلسي. لكن ماذا يعتقد جيفرسون بشأن القرآن وآياته؟ في الحقيقة لم يترك جيفرسون أية ملاحظات تسلط الضوء على ردود أفعاله المباشرة، فإما أنه لم يكتبها أو أنها لم تنج من الحريق الذي التهم منزل والدته بعد خمسة أعوام على شرائه نسخة القرآن. وقال جيفرسون «إنه فقد جميع الأوراق والكتب في الحريق»، وربما فقد نسخة القرآن أيضاً. وإن كان ذلك قد حدث، فهو بالتأكيد اشتراها مرة أخرى، وذلك بالنظر إلى بقائها في مكتبة الكونجرس حتى الآن. وفي تلك النسخة لم يكتب جيفرسون شيئاً سوى الحروف الأولى من اسمه على صفحة في بداية المجلد. ورغم أن جيفرسون نال فرصة التثقف بشأن الإسلام من مقدمة سال، لكنه انتقد الدين في كثير من مناظراته السياسية الأولية في عام 1776، واصفاً إياه بأنه «يخنق حرية التفكير»، وهو اتهام كاله أيضاً ضد الكاثوليكية، إذ اعتقد أن كليهما يمزجان بين الدين والدولة، بينما كان يرغب في فصلهما تماماً في فيرجينا. ورغم انتقاده للإسلام، أيد جيفرسون حقوق معتنقيه، وهو أنموذج كرره مع اليهودية والكاثوليكية، متجاوزاً بطله لوك، الذي رفض التسامح مع الكاثوليك والملحدين. وفي كتاب جيفرسون «ملاحظات بشأن فيرجينيا»، الذي نشر في عام 1784، نشر آراءه بشأن العلاقة بين دين جاره والدولة قائلا بأن «الصلاحيات الشرعية للحكومة تمتد إلى تلك الأفعال التي يمكن فقط أن تسبب ضرراً للآخرين». وبتأكيده على أن الحكومة يجب أن لا تتدخل في المعتقدات الغيبية لمواطنيها، قدم جيفرسون ذخيرة مستمرة، وإن كانت غير مقصودة، لأعدائه السياسيين، لاسيما أنه بالنسبة لكثيرين أثبتت تلك الكلمات أنه لم يكن مسيحياً حقيقياً. وبدت النسخة القانونية من «القاعدة الذهبية» لجيفرسون، إلى جانب آراء لوك عن الحقوق المدنية للمسلمين، واضحة في سيرته الذاتية التي كتبها في عام 1821، والتي تذكر فيها المعركة النهائية لتمرير أكثر تشريعاته شهرة، أي قانون فيرجينيا للحرية الدينية، والذي لا يزال مطبقاً حتى الآن. وينص القانون على الآتي: «ليس لحقوقنا المدنية اعتماداً على آرائنا الدينية». ورغم معارضة النسخة الأصلية من القانون في عام 1779، فقد تم تمريره في النهاية في عام 1786، أثناء وجود جيفرسون في فرنسا. ولا ريب في أن جيفرسون تخيّل المسلمين كجيران في مستقبل دولته، وهو توقع لا تزال له تداعيات بارزة حتى اليوم. ------ دينيس سبيلبيرج أستاذة التاريخ والدراسات الشرق أوسطية في جامعة تكساس ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. انترناشيونال»