تعلمت من أساتذتي منذ سنوات الشباب الباكر أن أحترم الخلاف في الرأي وأن أطبق بدقة آداب الحوار لو حدث أنني دخلت في سجال فكري مع من لا يتبنون أطروحاتي الفكرية التي أسجلها في مقالاتي وكتبي، أو التي أطرحها على المستمعين في محاضرات عامة. ولذلك أحترم تعليقات قرائي جميعاً الذين أتاحت لي شبكة الإنترنت أن أقرأ ملاحظاتهم النقدية الفورية على ما أكتب، حتى هؤلاء الذين لسبب أو لآخر يتخذون موقفاً نقدياً يتجاوز آراء الكاتب إلى إبداء الرأي في مسيرته الأكاديمية أو الفكرية، والذي غالباً ما يكون غير موثق وملئ بالمبالغات التي لا تستند إلى دليل. من هؤلاء الدكتور «علي فرج» أستاذ الهندسة بجامعة «لويزفيل». وأنا أحترم فيه مثابرته على القراءة الدقيقة لمقالاتي وعدم تردده في تقديم ملاحظات نقدية حول أطروحاتها، تنبعث أساساً من إيمانه بفكر جماعة «الإخوان المسلمين». ولا تثريب عليه في ذلك إطلاقاً، فلكل منا توجهاته الإيديولوجية التي اختارها بمحض إراداته وعن اقتناع. غير أن المشكلة الحقيقية تبدو في أن التحيز الأيديولوجي للشخص قد يدفعه إلى عدم رؤية الواقع رؤية حقيقية، وقد يميل إلى تبني نظرية تآمرية عن التاريخ المصري لا علاقة لها بما حدث بالفعل. وأعتبر مناقشتي الراهنة مع الدكتور علي فرج – لو سمح لي- حديثاً بين أصدقاء. وما دام الأمر كذلك فليس هناك ما يمنع من أن أذكر للدكتور «فرج» فصلاً من فصول تطوري الفكري. فقد كنت عضواً بجماعة «الإخوان المسلمين» في الفترة من 1950 حتى 1954 حين استقلت منها وتركتها نهائياً. دخلتها بحثاً عن حل للعدالة الاجتماعية بعد مشاهداتي قبل الثورة للفقر المدقع في مصر، وراقبت الفجوة الطبقية الكبرى بين من يملكون ومن لا يملكون. غير أن المشكلة بدأت حين طلب مني باعتباري أحد الدعاة الشباب الذين تخرجوا من المدرسة أن أهاجم «هيئة التحرير»، وهى أول منظمة شعبية تؤسسها ثورة 23 يوليو 1952، ورفضت على أساس أنني كنت أعتبر نفسي من أبناء الثورة، بل وكنت مع غيري من الشباب نحلم بها للانقلاب على الواقع المتردي الذي كانت تمر فيه البلاد. ولذلك كله رفضت أوامر قياداتى في جماعة «الإخوان» بالهجوم على «هيئة التحرير»، غير أنهم أصروا على ذلك تنفيذاً لمبادئ السمع والطاعة. غير أنني أصررت على الرفض واستقلت عام 1954 وكنت طالباً بكلية الحقوق. وأدركت ساعتها خطورة مبدأ «السمع والطاعة» والذي يمكن أن يدفع شباب «الإخوان» كما يفعلون اليوم في مصر بعد 30 يونيو للدخول في مواجهات دامية مع الأمن، والتي يسقط فيها ضحايا من بينهم لأنهم لم يعملوا عقولهم في الأوامر المنحرفة التي تصدر لهم من قادتهم. وفى تقديري أن حالة الدكتور «فرج» -لو استخدمت عباراته في وصف موقفي- ترد أساساً إلى اغترابه عن المجتمع المصري. لأنه – كما ذكر- يعيش في أميركا منذ عام 1979، ومعنى ذلك أنه لا يتابع بشكل مباشر تطورات الأوضاع في مصر وخصوصاً منذ ثورة 25 يناير وما تلاها من موجة ثورية ثانية في 30 يونيو، والتي أدت إلى إسقاط حكم الإخوان المسلمين وعزل الرئيس الدكتور «مرسي» وإعلان خريطة طريق جديدة، ووضع دستور تم الاستفتاء عليه بمعدلات مرتفعة للغاية. غير أن المشكلة الأخطر في رأيي هي في توصيفه السلبي لثورة 23 يوليو 1952 والتي حققت إلى حد كبير العدالة الاجتماعية للفلاحين والعمال والطبقة الوسطى. ويكفي أن أذكر له أننا – أبناء الطبقات المتوسطة- لم نجد فرصتنا في التعليم العالي المجاني إلا بفضل الثورة. غير أنه أثبت أنه لم يغترب فقط عن تاريخ بلده الذي غادره نهائياً منذ سنوات بعيدة، ولكنه لم يفهم سيرة الكتاب والمثقفين المصريين منذ ثورة يوليو حتى الآن. فغير صحيح ما زعمه من أنهم كانوا مغبونين أو خائفين أو مترددين. ذلك أن الغالبية العظمى منهم وفيهم أساتذة جامعيون مرموقون مارسوا النقد الاجتماعي المسؤول في المرحلة الناصرية وفي حكم «السادات» و«مبارك» بعد ذلك. وأذكر له واقعة تاريخية مهمة هي أنني كنت مع المبعوثين المصريين إلى فرنسا (1964-1967) ودعينا لمؤتمر المبعوثين بالإسكندرية عام 1966 الذي حضره ممثلون عن كل المبعوثين المصريين في مختلف بلاد العالم، وحضر «جمال عبد الناصر» وأركان حكمه المؤتمر ووجهنا انتقادات مباشرة للحكم في مصر، وخصوصاً في مجال الحريات العامة وبداية ظهور الفساد الديموقراطي، وحين عدنا إلى مصر وأصلنا دورنا النقدي سواء في مراكز الأبحاث التي عملنا فيها، أو في الجامعات التي قمنا فيها بالتدريس. وتبقى أخطر مظاهر اغتراب المهاجر لدي الدكتور «علي فرج» في عدم فهمه لإسقاط الشعب لحكم «الإخوان» المستبد. يا سيدي ليست المسألة مجرد صندوق انتخابات، لأن «هتلر» نفسه الديكتاتور النازي الشهير نجح في انتخابات ديموقراطية، ثم انقلب وتحول إلى الديكتاتورية الصريحة. تماماً كما فعل الدكتور «محمد مرسي» والذي فشل بتحقيق وعوده التي وعد بها التيارات الليبرالية التي بايعته قبل إعلان نجاحه على أساس أنه سيطبق شعار جماعة الإخوان المسلمين «مشاركة لا مغالبة»، لأن مكتب الإرشاد الذي كان يدير مصر من وراء ستار أراد أن يطبق سياسة «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع» وأقصى كل التيارات السياسية. وأخطر من ذلك أن الدكتور «مرسي» أصدر إعلاناً دستورياً اعتدى فيه اعتداء مباشراً على استقلال القضاء، وحصن قراراته من أي نقض، وأعلن نفسه ديكتاتوراً مطلق السراح. وهذا الإعلان الدستوري بالذات كان مؤشر الخطر الأعظم الذي أحست بعد صدوره مختلف فئات الشعب المصري أن حكم «الإخوان المسلمين» ينزلق إلى الديكتاتورية، ويسعى إلى تحطيم مؤسسات الدولة وتفكيكها حتى يقيم دولته الدينية، استعداداً لتأسيس الخلافة الإسلامية المزعومة. ولذلك انطلق الشعب بالملايين إلى الميادين استجابة لدعوة حملة «تمرد» التي استخف بها الدكتور «مرسي» وأعضاء مكتب الإرشاد، فإذا بها توجه الضربة القاضية لحكم الإخوان المسلمين، وخصوصاً بعد أن بادرت القوات المسلحة بجسارة لكي تدعم الإرادة الشعبية. وهكذا توالت الأحداث التي يعرفها الدكتور «علي فرج» وإنْ كان يرفضها ولا يعطي لها التفسير الصحيح. ما حدث ثورة شعبية وليست انقلاباً عسكرياً، وتشهد على ذلك الاحتفالات المليونية لشعب مصر العظيم في ذكرى ثورة 25 يناير والتي لم تلق بالاً لكل المظاهرات التخريبية لجماعة «الإخوان المسلمين» أو لجرائمها الإرهابية. نحن كتاب مصر مرابطون هنا للدفاع عن حقوق الشعب في الحرية والعدالة الاجتماعية، وندعوكم جميعاً مقيمين في الخارج لفترة مؤقتة أو مهاجرين لكي تنضموا للمسيرة وتشاركوا في تحقيق الديموقراطية المصرية الجديدة.