كلما هممت بشراء ثوب فاخر، تذكرت كم البرد الساكن عظام أصحاب المخيمات، وكلما لاحت لي فرصة ارتداء حذاء يعتني بالأقدام ويجعل الخطوات لها صوت مختلف، جاءتني صورة الأقدام الحافية الصغيرة مكفهرة الملامح حتى تكاد تتساوى بغبار الأرض. وكلما جاءت الدعوات لولائم الأفراح ولقاء الأصحاب، باغتتني صورة أصحاب اليرموك الجوعى والعطشى، فتتحول الصورة لدي إلى هروب من كل هذه الأطعمة الفاقع لونها. فهل يمكن أن نصدق أن هناك بشراً يموتون جوعاً؟ إذا كذب المثل العربي الشعبي أن أحداً لا يموت جوعاً، نعم يموتون جوعاً ونحن نزداد تخمة ودلالاً وهوساً بالجديد والفراغ الذي يملأ زوايا الروح. لا شيء صار لذيذاً ودافعاً للنهم، لأن هناك من يقف أمامنا وأمام أطباقنا، هناك من الثكالى واليتامى والجوعى ما يجعل الحياة صعبة وشاقة ولا تطاق. لا ينتهي الأمر عند فراش دافئ في مقابل عواصف لا يقف أمامها إلا خيمة اهترت من شدة البرد، وصغار ماتوا برداً وجزعاً وبحثاً عن مأوى. يا للهول، هل يحدث هذا للشام؟ بلاد المستحيل الممكن؟ بلاد الياسمين الدمشقي والعذوبة العروبية الصافية؟ يحدث ما هو أبشع.. وما لا يمكن أن يصفه بشر، أو بالأحرى ما لا يمكن أن يستوعبه شاعر كانت دمشق ذات مرة قصيدته اليانعة المزهرة في أجمل دواوين الشعر. وتموت حمص جوعاً أيضاً ولا تموت إلا واقفة، شاهقة، لا يمكن لبعض المكلومين التائهين بين الحقيقة والوهم أن يعرفوا كيف تُقرأ المدن بحروف لم تعد تعترف بالهزيمة ولا بالاستسلام، وصار الموت الذي يصارعه السوريون بات بالنسبة لهم ضيفاً عزيزاً، والذل عدواً أبعد ما يكون عن حدودها وسمائها وناسها. للموت هناك على أرض الشام المباركة طعم آخر لا يعترف بالجوع، ولا يعينه أبداً كم من الخبز سيزيد الوليمة لكل وجبة، أنه فقط معني بالبطولات الصامتة، بصمود لم يعرفه التاريخ، ولن يعرفه أبداً. فالحرية لم تعد في مقابل الحياة، بل في بعض الأماكن مقابل الموت؟ الموت وحده، حتى تمنح الحياة لأجيال قادمة، تستحق الحرية لا الموت والجوع والعذاب، تستحق أن تكون محط وجع، ومرفأ حلم رغم هروات الاستبداد الواقعة كل يوم على ظهور الشجعان. لن تخذلنا الشام، ولن تتخلى عن حلمها بالأفضل وبالهواء المنعش الخالي من الذل، فمن يمكنه أن يطيق ما تحمله أهل الشام أربعين عاماً من الذل. لا شيء يمكن وصفه غير الذل، وما أصعبه. وما أجمل الحرية عندما تأتي في مواجهته. ستنتصر الشام وستعود حرة أبية، وسيبقى الذين قضوا جوعاً كل شيء إلا تلك الاحتفالية بالحرية المضرجة بأرواحهم وأكفانهم ورثائهم الأخير. لا يهم كم من الزمن مضى.. المهم أن الباب قد فتح على مصراعيه؟ يتلاشى كل يوم ليثبت الحق وليكون للحرية كلمتها الجميلة، وقصيدتها المرهفة المشرفة على أكوان جديدة للانعتاق من نير العبودية. لرائحة الحرية ثمن بالدم والبرد والجوع وكلها أثمان رخيصة عندما تكون الحرية هي الحلم الذي آن له أن يكون واقعاً وحياة وكل التفاصيل الجميلة الأخرى.