من الأشياء المألوفة في السجون لجوء بعض السجناء إلى زملاء لهم لاستشارتهم وكتابة المذكرات القانونية لهم. فرغم أن هؤلاء ليسوا خريجي قانون بالضرورة، إلا أن بحثهم الدائم في القوانين للدفاع عن أنفسهم، واطلاعهم على قضايا كثيرة تخص زملاءهم، وامتلاكهم موهبة الكتابة قبل كل شيء، إلى جانب ملكة التفكير المنطقي، يصنع منهم أساتذة لا يُستهان بهم. ونجد أشخاصاً لم يلتحقوا بالجامعات، لكنهم يعدون أسماء مهمة في بعض المجالات، كبعض المؤرخين والآثاريين. صحيح أن التخصص العلمي يعطي صاحبه مصداقية أكبر، ويمنح رأيه اعتباراً أكثر، ومظنون التوفيق منه أكثر من غيره، إلا أن هذا لا يعني أن من سواهم لا يفقهون شيئاً، فالمهم ألا يقول المرء ما ليس له به علم، وأن يعرف عما يتحدث، سواء اكتسب هذه المعرفة بالتحصيل الجامعي، أو بالاجتهاد والاطلاع والفضول المعرفي. وقد يصعب قبول رأي غير المتخصص في العلوم التطبيقية، لكن حاجز التخصص ليس كثيفاً في العلوم الإنسانية عموماً، ومن الممكن أن يعطي غير المتخصص في الاجتماع أو التاريخ أو اللغة آراء جديرة بالاهتمام، ما دام مطلعاً بما فيه الكفاية، ولديه الخلفية اللازمة، مدفوعاً بالشغف المعرفي، وملتزماً بالمنهج العلمي. لكننا نرى زوبعة من الاحتجاج تثار كلما كتب غير المشايخ في أي قضية تلامس الدين، ونجد من يحثو على وجه المتكلم مقولة «من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب»، فلا يجوز عندهم قول كلمة واحدة في أي شيء يتعلق بالدين ما لم يكن المتكلم خريج كلية شرعية، وما لم يثن الركب في مجالس مشايخ الدين. وفعلا، سينهار سقف البناء الذي رسمه غير المهندس، وستسوء حالة الذي يتداوى عند غير الطبيب، وسيأتي بالعجائب إن أخذ غير المجتهد والفقيه في استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، وراح يتصدى لمسائل الحلال والحرام ويستدل عليها بآيات لا يعرف أسباب نزولها، وبأحاديث لا يعرف مدى صحتها، لكن قضايا مثل الخطاب الديني، والتيارات والمذاهب، والسيرة والتاريخ والفتوحات، وقضايا الأسرة والتربية، والقيم والأخلاق... ليست قضايا مغلقة على أهل التخصص الديني، إذ يمكن أن يتناولها غيرهم ما دام لا يهرف بما لا يعرف، خصوصاً أنه ليس منبتّ الصلة بالحضارة الإسلامية بأبعادها المختلفة، وليس كائناً غريباً عنها أو طارئاً عليها، مثلما يتحدث مشايخ الدين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والرياضة كلما تقاطعت موضوعاتها مع تخصصهم الشرعي، من دون أن ينكر عليهم أحد. ولو فلت المتكلم من مقولة الفن والعجائب، بعد أن ثبت لهم أنه يدري ما يقول، وأنه واسع المعرفة والاطلاع، فإنهم يعترضونه بمقولة: «من كان دليله كتابه، فخطؤه أكثر من صوابه»، وهي المقولة التي قد تصح في حالات وقد لا تصح في حالات أخرى، والمهم في هذا كله أنهم يتتبعونه بالطعن والذم إلى أن يسكت للأبد. ومن العجيب أن تلقى عبارة الفن والعجائب حتى في وجه من يرجّح رأياً قال به علماء موثوق بهم على رأي قال به علماء آخرون موثوق بهم أيضاً، رغم أنه لم يأت بشيء من جيبه، أم عليه أن يذهب إلى أصحاب الرأي الأول ويسألهم عن صحة رأيهم، والحال أنهم سيقولون إنه صحيح وإلا لما قالوا به، أم يذهب للفريق الآخر ليسمع الجواب نفسه، أم يذهب إلى علماء محايدين، ليصحّح له بعضهم الرأي الأول، ويصحّح بعضهم الرأي الثاني، ليجد في نهاية متاهة الأسئلة حول الرأيين أمامه، وأن عليه أن يختار بينهما، ليسمع‏? ?بعد? ?ذلك? ?مقولة? ?الفن? ?والعجائب?!?