إذا كان من الصعوبة بمكان تحديد الآثار المرتبطة إجمالا بتكنولوجيا الإعلام والاتصال في العالم العربي، فذلك بشكل أساسي لأن هذه التكنولوجيا لم تعد اليوم أشكالا رمزية للتبادل بين ثقافات وأنظمة إعلامية، ولم يعد همها مواجهة التحديات وتوضيح النزاعات الوطنية للتمكن من احتوائها، وإنما أصبح هدفها الأول نشر وتعميم الأنماط الثقافية المهيمنة. ووفق هذه الرؤية المحملة بهواجس الهوية، يحاول كتاب "العرب والإعلام الفضائي" التوقف عند الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام المرئي في المجتمع العربي الراهن. ففي حين لا زال التطور العالمي لوسائل الاتصال والإعلام يشهد تدفق المعلومات في اتجاه واحد، من الغرب الصناعي الغني والمتقدم إلى الشرق النامي والأفقر، فإن دولا عديدة (مثل كندا وفرنسا والهند..) وقفت أمام هذه التحديات تدفع عنها خطر التدفق الإعلامي غير المتوازن، فيما يمثل الوطن العربي سوقاً واسعة وساحة مفتوحة لتقنيات الإعلام الغربي ومنتجاته.
ولتعليل هذه الظاهرة وتحديد ما تنطوي عليه من مخاطر يؤكد الكتاب على بعض العوائق المرتبطة بهذه الوضعية؛ مثل واقع التضييق على الحريات الإعلامية، وإلغاء حرية المواطن وتحجيم المشاركة الديمقراطية في مجتمعه، إضافة إلى هيمنة مؤسسات الدولة والقطاع الخاص ضد المصلحة العامة أو مصلحة المواطنين.
ويعالج الكتاب ثورة وسائل الاتصال وانعكاساتها على تطور الإعلام العربي، ويحدد الإشكالية الرئيسية في هذا الصدد بقوله إن استخدام الطباعة والصحافة قد دفع المد القومي نحو آفاق جديدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية واستقلال البلدان العربية، لكن استخدام تقنيات الاتصال الإلكتروني المتقدم كانت له آثاره السلبية في الشخصية القومية، فأين يكمن السبب وراء هذه المفارقة؟. من خلال تتبعه للتاريخ العربي الحديث منذ بواكير النهضة العربية، يصل الكتاب إلى أن العرب استخدموا تقنية الاتصال التي أتاحها لهم عصرهم في خمس مراحل متمايزة؛ أولاها تمثلت في ظهور صحف رسمية وأخرى شعبية بداية من الربع الأول للقرن التاسع عشر، وقد تميزت الصحافة العربية في هذه المرحلة، منذ تأسيسها وحتى الحرب العالمية الثانية، بأنها "كانت صحافة رأي وتوجيه لا صحافة خبر فحسب"، ومن ثم كان تأثيرها "قوياً ومميزاً".
أما المرحلة الثانية والتي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فتعزز خلالها العمل الصحفي باستخدام التقنية الإلكترونية للإذاعة التي أصبحت وسيلة وطنية وقومية وباتت أداة أساسية لإبلاغ رسالة التنمية والتحرر.
وأعقبتها المرحلة الثالثة التي بدأت بعد هزيمة يونيو 1967 وفيها تقدم التلفزيون والسينما واحتلا مكانهما كقوة غير منازعة في الوطن الكبير، فتجلت بقوة آثارهما التخديرية، لتنتهي هذه المرحلة بسقوط النظام الاتصالي في وحل التبعية التي مكنت النخبة من استخدام الإعلام لتشكيل الرأي العام بصورة تجعل من الحفاظ على الوضع القائم هدفاً نهائياً له.
وفي المرحلة الرابعة التي بدأت في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، أصبحت المحطات الإذاعية والتلفزيونية العربية "معارض لأحدث وأضخم ما هو متوفر في العالم من تقنية الاتصال"، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في موازين القوة الإعلامية. ثم ظهرت في المرحلة الخامسة خلال عقد التسعينيات موجة القنوات الفضائية العربية التي جاءت لتعمق كثيراً من الفجوات القائمة، فازداد الانبهار بهذه التقنية والتهافت على استخدامها. وهكذا يخلص الكتاب إلى أنه بينما استخدم العرب تكنولوجيا الاتصال في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي كأداة قوة ووحدة، فإنهم حولوا هذه الوسائل بعد الهزيمة التي وقعوا فيها إلى أداة للدعاية وتغييب الوعي، بكل ما في ذلك من معانٍ فوقية وسلطوية مضادة للتغيير!
ويشخص الكتاب بعض التأثيرات الناجمة عن التعرض للبث التلفزيوني الأجنبي، مركزاً على التأثيرات السياسية، أي ما يتعلق بالمواطن في سلوكه السياسي وفي علاقته بالسلطة، بما في ذلك ظهور أنماط سلوكية جديدة فيها قدر من المسايرة وفيها قدر من المغايرة، وتركيز الأنظار على موضوعات محددة دون غيرها، وإثارة الشكوك حول الانطباعات المتعلقة بالسلطة، وزيادة الإحساس بضعف الدور السياسي العربي، وشيوع الأفق الغربي في النظرة السياسية.
ويحاول الكتاب تقديم رؤية تقييمية لأداء الفضائيات العربية التي برزت خلال السنوات الأخيرة وباتت جزءاً من المشهد الإعلامي العالمي. فقد أخذ تأثير الإعلام الفضائي العربي يفرض نفسه، واستطاع بشكل خاص خلال حربي أفغانستان والعراق أن يزاحم الإعلام الغربي ويتعامل معه بندية واضحة، بل أصبح إلى حد ما بديلا مشروعاً للإعلام الغربي، له صدقيته من الناحية التقنية والإعلامية وحتى الأيديولوجية.
أما داخلياً فبات المتلقي العربي يجد ذاته في هذه الفضائيات بحكم تنوعها وتعددها. ولعله من المفارقة أن يتحدث الكتاب عن عسكرة الإعلام الأميركي وإخضاعه للمؤسسة السياسية والعسكرية، في الوقت الذي بدأت تظهر بوادر تحرر الإعلام العربي الناشئ م