ملفات سنودن... بين كشف المستور وتجاوز الحدود
في البداية كانت تسريبات موقع ويكيليكس الشهيرة التي أذاعت أسرار وزارة الخارجية الأميركية وفضحت البرقيات الخاصة التي يتبادلها الدبلوماسيون الأميركيون مع رؤسائهم أو مع نظرائهم في أنحاء المعمورة، ثم بعدها جاءت تسريبات صادمة أخرى، للمتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركي، ادوارد سنودن الذي كشف معلومات في غاية السرية عن كيفية تعامل الاستخبارات الأميركية مع البيانات الشخصية لمواطنيها ومواطني الدول الأخرى. كل ذلك يفصله كتاب «ملفات سنودن... القصة الداخلية لأكثر الرجال المطلوبين في العالم»، للصحفي البريطاني لوك هاردينج الذي نشر ملفات سنودن وجوانب من شخصيته في «الجارديان»، كما دبج مقالات جرّت عليه سخط السلطات البريطانية ودفعتها للمطالبة بتدمير أجهزة الكمبيوتر والأقراص المدمجة وباقي أدوات التخزين التي حُملت عليها تلك المعلومات.
لكن قبل الدخول في تفاصيل العلاقة بين الصحيفة التي أسر إليها سنودن بكنزه الثمين من المعلومات السرية وبين السلطات البريطانية، يشير الصحفي أولا إلى معنى تلك التسريبات من خلال وضعها في سياقها العالمي والتطرق إلى تداعياتها اللاحقة. فلأول مرة في تاريخ الاستخبارات العالمية يتم تسريب هذا الكم من المعلومات، إذ غالباً ما كان الجواسيس يكتفون بانتزاع سر أو سرين على الأكثر بعدما ينجحون في اختراق أجهزة الدول المعادية، لكن ما حصل مع سنودن أنه سرب آلاف المعطيات المحرجة بالنسبة لأميركا.
ووجه الحرج، أو بالأحرى القلق، مما سرّبه سنودن هو الطريقة التي باتت تتجسس بها أميركا على مواطنيها وعلى العالم، فبفضل التكنولوجيا المتطورة ما عادت هناك حاجة للاعتماد على الجاسوس البشري، بل بات ممكناً اختراق الاتصالات والتنصت على المكالمات، وقراءة الرسائل البريدية والنصوص القصيرة التي يتبادلها الناس دون أن تغفل عنهم عين «الأخ الأكبر».
والمثير في الأمر أن ما سجلته تسريبات سنودن هذه المرة هو ما برز من تواطؤ بين شركات الاتصالات الكبرى في الولايات المتحدة ووكالة الأمن القومي الأميركية التي سعت إلى الاطلاع على بيانات المنخرطين في «فيسبوك» و«ياهو» وغيرها من الشركات التي يُعد المشتركون في خدماتها البريدية بالملايين، فضلا عن طلب معطيات شخصية تتعلق بالأفراد وبعض الجماعات، من شركة «جوجل». ومع أن الحكومة الأميركية بررت هذه العملية بأنها قانونية، وبأنها حصلت على ترخيص قضائي، فالمشكلة بالنسبة للولايات المتحدة أنها وقعت في ورطة مع دول أخرى كانت تنصحها سابقاً بإبقاء الإنترنيت مفتوحة دون أن تحترم هي نفسها خصوصية الأفراد، وهو ما يدفع الكاتب للتساؤل حول كيف يمكن للولايات المتحدة منع الصين مثلا من استغلال البيانات المتوافرة لدى شركات اتصالاتها.
وكما كشفت الوثائق المسربة، لم يقتصر التجسس على المواطنين العاديين، بل طال أيضاً قادة الدول مثل المستشارة الألمانية، ومعها الملايين من مواطني الدول الأوروبية التي تعتبر حكوماتها حليفة لأميركا.
لكن ما الذي دفع سنودن إلى التمرد على الاستخبارات الأميركية وفضحه كل هذه الأسرار؟ حسب الكاتب لم يُعرف على سنودن تمرده من قبل ولم تظهر مؤشرات تدل على ذلك، فهو قبل العمل مع وكالة الأمن القومي، كان قد تعاقد مع وكالة الاستخبارات المركزية وعمل في بعض فروعها بأوروبا ومناطق أخرى كمستشار في تقنية المعلومات.
لكن سنودن كان يحمل أفكاراً سياسية ربما ساهمت، يقول الكاتب، في اتخاذه موقفه وتسريب أسرار استخباراتية. فهو من أنصار المذهب «الليبرتاري» (أو التحرري) الذي لا يجد مكاناً للدولة في تسيير المجتمع، كما يعلي من قيمة الحرية الفردية باعتبارها القيمة الجوهرية التي لا يجب بحال تجاوزها، وهو ما قد يكون أثار حفيظة سنودن بعدما لمس كيف تتجسس الحكومة الأميركية على مواطنيها وتستغل بياناتهم الخاصة في انتهاك القانون والمعايير الأخلاقية.
بيد أن الكاتب يتساءل من جهة عن بعض التناقضات في خطاب سنودن، فإذا كان الرجل من مؤيدي الحرية الفردية، فكيف يمكنه طلب اللجوء إلى روسيا البعيدة كل البعد عن المعايير الديمقراطية؟ وكيف يمكن التوفيق، يتساءل الكاتب، بين متطلبات الأمن القومي والخصوصية الفردية، مشيراً هنا إلى تسريب سنودن ليس فقط لمعلومات سرية عن تجسس الحكومة الأميركية، بل أيضاً كشفه بعض الوسائل التي تعتبر من صميم العمل الحرفي لمجتمع المخابرات ولا يجوز كشفها لدول أخرى؟
زهير الكساب
الكتاب: ملفات سنودن... القصة الداخلية لأكثر الرجال المطلوبين في العالم
المؤلف: لوك هاردينج
الناشر: جارديان فايبر بابليشينج
تاريخ النشر: 2014