من المسلّم به أن إحدى سمات الشخصية القومية التناقض بين الحزن والفرح، الهم والمرح، البكاء والضحك، النواح والقهقهة، والتشاؤم والتفاؤل...الخ. ?ويظهر? ?طابع? ?الحزن? ?في? ?صوت? ?الناي، وهي? ?الآلة? ?الموسيقية? ?المميزة? ?للموسيقى? ?العربية، وفي? ?المآتم? ?كأحد? ?المظاهر? ?الاجتماعية، وفي? ?قول? «?اللهم? ?اجعله? ?خيرا?ً» ?أو? «?اللهم? ?اخزك? ?يا? ?شيطان?» ?إذا? ?ما? ?زاد? ?الإنسان? ?في? ?الضحك? ?أو? ?أكثر? ?في? ?المرح.? ?وفي? ?الفن? ?المصري? ?القديم? ?كانت? ?هناك? ?النائحات? ?والنادبات? ?كإحدى? ?الوظائف? ?الاجتماعية.? ?وقد? ?أكثر? بعض ?الصوفية? ?من? ?الإشادة? ?بالحزن? ?وتحريم? ?الفرح? ?فإن? الخشوع ?لا? ?يدخل? ?قلب? ?عبد? ?فيه? ?مزمار?! ?وأصبح? ?أبو? ?الحسن? ?البصري? ?والزاهدة رابعة? ?العدوية? ?من? ?أئمة? ?الصوفية? ?الأوائل? ?لتركيزهما? ?على? ?الحزن، الحزن? ?مع? ?الخوف? ?عند? ?البصري، والحزن? ?مع? ?المحبة? ?عند? العدوية.? ?لا? ?يقول? ?الأول? «?واحزناه?» ?بل? «?واقلة? ?حزناه?»! ?و?كان? ?من? ?وصايا? ?الإسلام? ?الأولى? ?وأقواله? «?ليس? ?منا? ?من? ?لطم? ?الخدود، وشق? ?الجيوب، ودعا? ?بدعوة? ?الجاهلية?!». ?قد? ?يكون? ?السبب? ?في? ?ذلك? ?كثرة? ?ما? ?توالى? ?على? ?البلاد? ?من? ?هموم? ?وأحزان? ?بسبب? ?الغزو? ?الخارجي? ?أو? ?القهر? ?الداخلي.? ?فكثيرا?ً ?ما? ?أتى? ?الغزاة? ?فدمروا? ?البلاد، وقتلوا? ?الرجال، وشردوا? ?النساء، وخطفوا? ?الأطفال? ?واسترقوا? الأسرى، وهدموا? ?المعابد? ?وعاثوا? ?في? ?الأرض? ?الفساد.? ?وغالباً? ?ما? ?كان? بعض ?الحكام? ?يفعلون? ?نفس? ?الشيء، مطاردة? ?الخصوم? ?وجباية? ?الضرائب? ?قهراً? ?من? ?الفلاحين.? ?وما زالت? «?شكاوى? ?الفلاح? ?الفصيح?» ?عنصراً? ?دائماً? ?في? ?الأدب? ?الشعبي.? ?كان? ?الفتك? ?وشظف? ?العيش? ?والفقر? ?نمط? ?حياة? ?دائم? ?عند? ?الغالبية? ?العظمي? ?من? ?الشعب. وفي نفس الوقت تظهر سمة الفرح والمرح والضحك والتي تظهر في النكتة والقفشة والقافية إلى درجة أن المسرحية قد تتكون أساساً من مجموعة من القفشات عندما يدخل الأبطال معاً في «قافية» أمام ضحك الجمهور المتواصل بصرف النظر عن الموضوع والخط الدرامي للمسرحية. بل تعقد جلسات خاصة للمرح للظرفاء وتبادل آخر النكات في اجتماعات بين الأصدقاء في حلقات الظرفاء، كما امتلأت بهم الآداب القديمة وكتب الروايات. وأصبح الهزل سمة دائمة في السلوك الوطني، حتى الهزل من الجد ?وقد? ?قيل? ?في? ?الأمثال? ?العامية? «?شر? ?البلية? ?ما? ?يضحك?»?. ويمكن لهاتين السمتين المتعارضين أن تتحققا في سمة متوسطة ثالثة في روح السخرية أولاً ثم في العقلية الناقدة ثانياً. فالسخرية هي الجد الهازل، والحزن والمرح، والمرارة الضاحكة. أما النقد الاجتماعي فهو الذي يجمع بين السمتين حيث يظهر البكاء والحزن في روح الرفض، والمرح والفرح في روح الالتزام. يظهر الحزن في الغضب والتمرد، ويظهر الفرح في الثورة والانتصار. ونظراً لتراكم طويل من التشريعات والقوانين تحول العالم كله عند البعض إلى منطقتين: الحرام والحلال. والبداية بالحرام أي بالكف عن السلوك والاشتباه في العالم. فالعالم حرام حتى تثبت براءته. فإذا ثبتت أصبح حلالاً. وكأن الأشياء في الأصل على التحريم وليست على الإباحة كما قال القدماء. واتجاهنا نحو العالم هو نفس اتجاهنا نحو الفرد. فالإنسان مجرم حتى تثبت براءته، وليس بريئاً حتى تثبت إدانته. لم يترسب في أعماقنا ما قاله الأصوليون عن البراءة الأصلية أو براءة الذمة أو أن الأشياء في الأصل على الإباحة. ويظهر ذلك في مظاهر التزمت التي قد تبدو في حياتنا والتي تزداد يوماً بعد يوم مع تساؤلنا المستمر عن حرمة الأشياء وتوجسنا خيفة من العالم وكأنه شيطان نجس نتعوذ منه! وقد سخر محمد عبده من إنسان يرفع رأسه إلى أعلى ليسأل عن ماء سقط عليه إذا كان طاهراً أم لا حتى لا ينقض وضوءه! وقديماً سخر عمر من إنسان وجد بلحة على الأرض فأحضرها له سائلاً هل يأكلها أم لا، لأنه لا يعرف من أية شجرة سقطت، ومن يملكها، وهل أكلها حلال أم حرام فقال له: «كلها يا ذا الورع الكاذب»! وفي نفس الوقت الذي يطغى فيه الحرام على الحلال، والشبهات على الواضحات، ومن كثرة التزمت قد يتم رفض كل شيء بعنف، والتحول من النقيض إلى النقيض، ومن طرف إلى طرف. فيتم تحليل كل شيء مرة علناً ومرة خفاء طبقاً لضرورات الحياة وللصراع من أجل البقاء. بل إن تجنيب «الحرام» نفسه تحول إلى تجارة للكسب والتعايش مثل التجارة في الكتب الدينية، والكسب من وراء الزي الإسلامي، وتأسيس شركات توظيف الأموال وبعض بنوك التقوى والصدقات! وقد يتحول الفرد في سلوكه من النقيض إلى النقيض، من التزمت إلى الإباحية، ومن الإيمان إلى الإلحاد، ومن الزهد إلى الجشع. يبدأ الإنسان متزمتاً وينتهي منحلاً أو يبدأ منحلاً وينتهي متزمتاً كما هو الحال عند عمر الخيام والزاهدة رابعة العدوية. ويظهر ذلك أيضاً في المعيار المزدوج لرب الأسرة، التزمت مع الآخرين والإباحية لنفسه كما هو الحال في شخصية السيد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ. ويمكن تقليل المسافة بين الطرفين المتناقضين في الاتجاه الطبيعي. فما يقوي الطبيعة ويزهرها فهو الحلال. وما يقضي على إمكانياتها فهو الحرام. السلوك الطبيعي هو الذي يتمايز فيه الحلال والحرام. وهو السلوك الفطري. فكل إنسان يولد على الفطرة. وفي سلوكنا القومي يغيب المنهج تصوراً وفكراً وممارسة. لا يوجد طريق يوصل إلى شيء ولا توجد خطة طويلة الأمد لتحقيق مشروع قومي يستغرق عدة أجيال. ولذلك يضيع الوقت ويتشتت الجهد، وتكون بعض قراراتنا بنت الساعة ولهدف مؤقت، يتغير بتغير الأشخاص والأنظمة السياسية. ويتضح ذلك أيضاً في حركة سير المرور في الطرقات، والاعتماد على الجهد الذاتي الصرف بلا قانون أو نسق إلى درجة أن أحد زعماء الصهاينة قال ذات مرة «لو انتظم المرور في القاهرة لبدأت إسرائيل تخشى»! وفي نفس الوقت هناك الحس الشعبي البديل الذي يغني عن المنهج، بداهة ابن البلد وفطرة رجل الشارع اعتماداً على ما اكتسبه الناس من تراكم تاريخي طويل أكسبهم مقدرة على العيش حتى في أصعب الأوقات وهو ما يسمي بالسليقة أو الفطرة أو التجارب المكتسبة أو حكمة السن «أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة». وكثر الاعتماد على الأمثال العامية والحس الشعبي. ولذلك لم يكن التعليم بذي قيمة. تكفي تجربة العمر. ليست الأمية هي الجهل، فالأمي قد يكون متعلماً والمتعلم قد يكون جاهلاً. ويمكن الجمع بين النقيضين، العشوائية والقصد، عن طريق صياغة منهج فطري لا تكون خطواته مضادة للفطرة ولا يكون قاصراً أو ناقصاً أو جزئياً. هذا منهج تجريبي للعلوم الطبيعية، وهذا منهج عقلي للرياضيات، وهذا منهج ذوقي للفنون. فالفطرة ليست مجرد سلوك بالسليقة، وحكم بالبداهة والتلقائية ولكنها فطرة تعتمد على النظر والمران. لقد كانت لحظات التقدم في تاريخ الفكر البشري هي لحظات اكتشاف المناهج. فالمنهج هو القادر على حل المشكلات مرة واحدة، قياساً للأشباه بالأشباه والنظائر بالنظائر. وقد استطاع علم الأصول عند القدماء تأسيس منهج وهو القياس أصبح دعامة للاستدلال، وطريقة لاستنباط الأحكام، واستنباط للمجهول من المعلوم. ولكنه لم يعش في شعورنا القومي كما عاشت القوة المسيطرة على العالم بلا قانون أو مبدأ. وبمجرد أن تم تشخيص هذه القوة وتحويلها إلى مسيطر أصبح العالم عشوائياً تصعب السيطرة عليه، وعاش الإنسان فيه بليداً فاقداً قوة الإيمان وثقة العقل.