عنقاء السياسة الأميركية
بعيد ترشيحها لحقيبة الخارجية في ديسمبر 2008، وقبل تنصيبها بأشهر، دعت هيلاري كلينتون الجنرال ديفيد بيترايوس إلى منزلها من أجل لقاءٍ رأساً لرأس للحديث حول الشرق الأوسط. قبل ذلك الوقت، كانت كلينتون قد تصادمت مع بيترايوس خلال أوج حرب العراق، حيث اتهمته بالكذب بخصوص التقدم العسكري هناك عندما كان قائداً للقوات خلال ولاية بوش الابن، وكانت عضواً في مجلس الشيوخ تستعد للترشح لمنصب الرئاسة. لكن ذلك الصدام بات الآن ذكرى بعيدة واللقاء مر على أحسن ما يرام لدرجة أن كلينتون دعت بيترايوس إلى بيتها مرة أخرى بعد ذلك.
هذه الخطوة تُعتبر من خطوات هيلاري الكلاسيكية وتعطي فكرة بليغة عن كيفية اشتغال آلة كلينتون السياسية وبرجماتيتها، والتي إليها يعود الفضل في تشكيلها لشبكة واسعة من العلاقات والأنصار بين الساسة والعسكريين. فمن خلال لقائها مع بيترايوس، كانت هيلاري تتمرن استعداداً لمنصبها الجديد، حيث كانت تريد الحصول على نظرة عامة على الشرق الأوسط من مصدر يوصف بأنه واحد من ألمع عقول الجيش الأميركي، وكذلك لكسب خصم سابق. وهو ما كان بالفعل؛ حيث ظل بيترايوس حليفاً وفياً لهيلاري داخل إدارة أوباما كقائد أعلى في أفغانستان وكمدير لـ«سي آي إيه»؛ حيث كانت مواقفهما تتطابق في النقاشات الداخلية حول أفغانستان وسوريا.
كتاب «هيلاري رودهام كلينتون» يحكي أبرز المحطات خلال السنوات الأربع التي أمضتها هيلاري على رأس الخارجية، وهو من تأليف الصحفيين جونثان آلن وإيمي بارنز، وكلاهما مراسلان قديران في واشنطن، لكن كشفهما للعلاقة التي تجمع بيترايوس وكلينتون يمثل واحدة من المعلومات الجديدة القليلة التي يتضمنها الكتاب حول الفترة التي شغلت فيها كلينتون منصب رئيسة الدبلوماسية الأميركية. كما أنهما يميلان إلى المبالغة في وصف شخصية كلينتون إذ يقولان مثلا: «إن هيلاري لا تعرف سوى سرعة واحدة: السرعة القصوى»، مضيفين «أنها مثل ملاكم مخضرم يحافظ على توازنه تحت الضغط، والفضل في ثباتها يعود إلى تجربتها». إنها «امرأة تنهض في كل مرة يقوم فيها العالم بإسقاطها».
وهذا تحديداً ما يؤخذ على هذا الكتاب الذي أطلق فيها المؤلفان العنان لعبارات الإطراء والمديح بحق كلينتون وما أنجزته على مدى أربع سنوات على رأس الخارجية الأميركية، حيث اختارا التركيز على نجاحاتها وإغفال إخفاقاتها، أو لنقل المرور عليها مرور الكرام.
والحق أن إنجازات كلينتون لا يمكن إنكارها، ومن ذلك حسن استعمالها لنجوميتها للمساهمة في ترميم صورة أميركا بعد الأضرار التي لحقت بها خلال سنوات بوش، وعودة الاهتمام الأميركي بآسيا والمحيط الهادئ، وحث ميانمار على إنجاز خطوات باتجاه الديمقراطية، والمساعدة على تجنب كارثة كبرى في قمة كوبنهاجن حول تغير المناخ، وتشكيل ائتلاف لدعم تدخل عسكري في ليبيا. كما لعبت دوراً محورياً في الضغط على زملائها السابقين في مجلس الشيوخ الأميركي للتصويت لصالح اتفاقية جديدة حول الحد من الأسلحة مع روسيا، وبذلت جهوداً حثيثة لفتح صفحة جديدة في العلاقات مع موسكو.
هذا الاجتهاد والمثابرة أكسبا هيلاري إعجاب واحترام موظفي أوباما الذين كان بعضهم يعتبرها «وحشاً»، على حد تعبير سامنتا باور، التي تشغل الآن منصب سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، غير أنها كانت حريصة بالقدر نفسه على تجنب كل ما من شأنه أن يضر بطموحاتها الرئاسية في 2016. لهذا الغرض، عُهد بملف أفغانستان وباكستان إلى الدبلوماسي المخضرم ريتشارد هولبروك وأوكل ملف النزاع العربي الإسرائيلي للسيناتور السابق جورج ميتشل. والأكيد أن التباين هنا مع وزير الخارجية الحالي جون كيري، الذي احتكر معظم تلك الملفات، قوي وكبير. أما السبب، فهو أن كلينتون مازال لديها مستقبل لتخشى عليه، بينما كيري يسكنه هاجس التركة التي سيتركها للتاريخ في وقت أزف فيه مشواره السياسي على النهاية.
كلينتون استغلت المنصب للاستعداد للمرحلة الأهم من مشوارها السياسي: الرئاسة. غير أنه قبيل انتخابات 2012، حدث ما سيصم سجلها السياسي للأبد: هجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي أسفر عن مقتل أربعة أميركيين، من بينهم السفير الأميركي في ليبيا. ورغم أنها بُرئت من تهمة الإهمال والتقصير، فإن الجمهوريين حاولوا تعليق مسؤولية موت الأميركيين الأربعة على تأييد كلينتون لـ«الدبلوماسية المتسرعة» – والمقصود بذلك تشجيع المسؤولين الأميركيين في الأماكن الخطرة على الخروج والتفاعل مع المجتمع المدني. والأكيد أن موضوع بنغازي سيطفو على السطح حال ترشح هيلاري لانتخابات 2016 الرئاسية.
محمد وقيف
-----
الكتاب: هيلاري رودهام كلينتون... أسرار وزارة الخارجية وانبعاث هيلاري كلينتون
المؤلفان: جونثان آلن وإيمي بارنز
الناشر: كراون
تاريخ النشر: 2014