قمة صناعة الأمل والسعادة
ما أصعب أن يجد المرء نفسه مدعواً إلى مؤتمر ضخم ذي جلسات متعددة تعقد بالتزامن، فلا يجد أمامه سوى القيام بعملية مفاضلة هي الأخرى صعبة بسبب أهمية وخصوصية كل جلسة دون استثناء. كان ذلك حالي وأنا أحضر في الأسبوع قبل الماضي القمة الحكومية الثانية في دبي ضمن 4700 شخصية رسمية وأكاديمية وإعلامية من 50 دولة ومنظمة عالمية وشركة خاصة.
وبطبيعة الحال كان نجم القمة دون منازع هو صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، الذي أختزل أهداف اللقاء في كلمات بسيطة مثل قوله: «نسعى لأن تصبح الإمارات عاصمة عالمية للإبداع الحكومي لأن التغيرات القياسية التي حدثت جعلت الإبداع هو السلعة الأهم في العالم». ومثل قوله «إن هدفنا في دولة الإمارات هو صناعة الأمل وصناعة الحياة وصناعة المستقبل وإسعاد الناس... إننا نقول إسعاد الناس ولا نقول رضا الناس، لأن الرضا مؤقت والسعادة أبدية». وقوله «نريد الوصول إلى الناس قبل أن يصلوا إلينا وتقريب المسافات واختصار الوقت وزيادة فاعلية وسهولة الخدمات».
وعليه فإن هذه القمة الحكومية كانت قمة البحث في كيفية إسعاد الناس! أما كيف يمكن إسعاد الناس أفراداً وجماعات، فيمكن الركون عند الإجابة إلى تجربة الإمارة المضيفة التي تحولت خلال عقود قليلة من مكان لا يكاد يذكر على خارطة العالم إلى مكان هو ملء الأبصار والأسماع في العالم، فحق لحاكمها ومهندس معجزتها أن يقول «الإمارات تسعى لإسعاد شعبها ومساعدة الآخرين» مضيفاً: «نمد يدنا للراغبين بالسير على الطريق الذي رسمناه.
وعند تفكيك الوصفة الإماراتية للسعادة نجد احتوائها على مبدأ مفصلي هو مواكبة المتغيرات الكثيرة في العالم وما يصاحبها من ارتفاع سقف متطلبات الناس، والعمل على تحقيقها بإتقان في زمن قياسي من خلال ما يعرف بـ «الحكومة الذكية». ويجزم معالي الأستاذ محمد عبدالله القرقاوي وزير شؤون مجلس الوزراء أن دولة الإمارات نجحت في إسعاد شعبها من خلال تقديم نموذج متميز لحكومة ذكية هي الأفضل عالمياً.
وهذا القول أكده البروفسور «جيفري ساكس» رئيس «مركز الأرض» في جامعة كولومبيا الأميركية حينما قال: «إننا موجودون في واحد من أكثر الأماكن سعادة في العالم بسبب جهود حكومة الإمارات الجبارة لاستكشاف سبل جديدة لتعزيز مستويات الرفاهية والسعادة حيث جاءت الإمارات في المركز الأول عربياً والمركز 14 عالمياً ضمن مؤشرات السعادة طبقاً للأمم المتحدة». وجاء كلام «ساكس» هذا ضمن حديثه في جلسة بعنوان «السعادة» استعرض خلالها الفرص والتحديات التي تواجه تعزيز وتحسين جودة حياة المواطنين، ونوه بأن مؤشرات السعادة نتاج مجموعة متداخلة من المقومات منها الخطط الحكومية لتحسين نوعية الخدمات العامة والضمان الاجتماعي وغيرها من العوامل التي تبعث على الاطمئنان وتحقق الرضا وتقضي على مسببات القلق.
لكن ماذا عن دور المال في توفير السعادة؟ كان ذلك سؤال الدكتور عادل الطريفي رئيس تحرير «الشرق الأوسط» للبروفسور «ساكس»، الذي رد قائلاً: إن المادة والمال مهمان جداً ولكنهما لا يعنيان كل شيء مشيراً في هذا الصدد إلى الولايات المتحدة «التي ارتفع الدخل فيها بنحو ثلاثة أضعاف خلال السنوات الماضية، لكن مقياس الرفاه لم يتغير وبالتالي لم تصبح الولايات المتحدة أكثر البلدان سعادة في العالم رغم امتلاكها لثروات كبيرة». ومثل هذا الكلام من شخصية في وزن البروفسور «ساكس» يحسب لدولة الإمارات ويثبت أن ما حققته لشعبها من رفاه لم يعتمد على المال وحده وإنما على عوامل أخرى مثل الرؤية الواضحة للقيادة، والإدارة السليمة للموارد، والعزيمة والتصميم، إضافة إلى قبول التحديات ومواجهتها بالتركيز على التعليم الحديث المستمر الذي يربي الأذهان المملوءة بالمشروعات والابتكارات الخلاقة ويحرضها على طرحها وتحويلها إلى منجز طبقاً لما قاله المتحدث في الجلسة الرئيسية الأولى وهو البروفسور كلاوس شواب مؤسس ورئيس المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس).
ومن منطلق أن الخدمات الحكومية الجيدة هي مفتاح سعادة الأفراد والمجتمعات وهي التي تحدد مدى صلاحية مدينة ما كمكان مفضل للسكن والحياة والعمل فقد كانت هناك جلسة لتسليط الضوء على لندن وبرشلونة وسيؤول كنماذج للمدن العالمية التي استطاعت أنْ تقدم خدمات حكومية رائدة لمواطنيها. وفي هذا السياق تم الحديث عن عوامل مثل الأمن والاستقرار، وتخفيف الازدحام، وتحسين الخدمات الاجتماعية وشبكات النقل والاتصالات، وبناء شبكة ذكية لعلاج الأمراض المزمنة، وتخفيض درجة تلوث الهواء.
وكانت هناك جلسة تحدث فيها «برنارد لو ماسون» مسؤول الاستشارات العالمية الخاصة بالصحة والخدمات العامة لدى شركة «أكسنتشر» التي أجرت دراسة شاملة حول مستوى تطوير الحكومة لحضورها الرقمي فيما يتعلق بالنشر والتفاعلات والتعاملات الإلكترونية في 10 دول هي البرازيل وألمانيا والهند والنرويج وسنغافورة وكوريا الجنوبية والسعودية والإمارات وبريطانيا والولايات المتحدة. وقد وجدت الدراسة أن الإمارات وسنغافورة والنرويج تصدرت المراتب الثلاث الأولى في استخدام الخدمات الحكومية الرقمية. وهذا دليل آخر على مدى ما بلغته دولة الإمارات من ريادة في مؤشرات السعادة حيث إن انتشار وتوسع مثل هذه الخدمات هو أحد هذه المؤشرات.
ومن الجلسات المتميزة الأخرى التي شدت الحضور جلسة عقدت تحت عنوان «مواكبة العمر المعرفي»، وذلك من أجل لفت النظر إلى ما يثيره التطورات المتلاحقة لتكنولوجيا التعليم من حالة ترقب وتحدٍ لدى القيادات التربوية وخبراء المناهج وأولياء الأمور على حد سواء، ذلك أنه مع ثورة تكنولوجيا التعليم المستمرة لا يمكن توقع الاحتياجات التعليمية للطلبة لأكثر من 5 سنوات كحد أقصى، مما يصـّعب الأمور على واضعي المناهج، كما لا يمكن تحديد ملامح ومتطلبات سوق العمل خلال السنوات القادمة، وبالتالي لا يمكن تحديد ما يجب أن يتمتع به طالب المستقبل من مهارات مختلفة عما تعلمه سابقاً.
وفي هذه الجلسة فاجأ معالي وزير خارجية الإمارات سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان الحضور بمداخلة قال فيها إنه يعاني يومياً مع أبنائه في محاولته فهم ما يتعلمونه في المدرسة، طالبا الجهات التربوية بتعليم الأهالي مختلف التطورات الجارية في الميدان التربوي للتمكن من مواكبة مسيرة أبنائهم الدراسية بسلاسة.
وتأكيداً لما ذكره البروفسور «ساكس» قال «بيتر بارون» مدير إدارة التواصل الإعلامي والشؤون العامة لدى «جوجل» في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط: إن حكومة دبي تمتلك رؤية وطموحاً لا حد لهما فيما يتعلق بالتحول الذكي نحو مدن المستقبل، وإن شركته قررت الدخول في تعاون مع الإمارة لجهة الخرائط السياحية وخرائط مراكز التسوق بهدف مساعدة جهات العرض والطلب على الوصول السريع لأفضل الخيارات المتاحة.
د. عبدالله المدني
كاتب وباحث ومحاضر أكاديمي من البحرين