الغاز وميزان القوى في شرق المتوسط
أدى اكتشاف النفط والغاز في شرق البحر المتوسط إلى تغيير في معادلات الصراعات السياسية بين دول المنطقة. ويتمثل ذلك في:
أولاً: تزايد الصراع بين لبنان وإسرائيل حول رسم الحدود البحرية. فلبنان يتهم إسرائيل بأنها وسعت نطاق استخراج الغاز من مناطق يعتبرها جزءاً من مياهه الإقليمية. وتقع هذه المناطق بين شمال إسرائيل وجنوب لبنان.
ثانياً: تزايد فرص التفاهم بين قبرص وتركيا، وبين قبرص وقبرص. فقد تم اكتشاف آبار غاز تقع بين تركيا وقبرص. ثم إن قبرص منقسمة على ذاتها إلى قسمين، قسم شمالي تركي وقسم جنوبي يوناني. ويدّعي كل من القسمين «وصلاً بليلى» الغاز المكتشف.
ثالثاً: تزايد التفاهم السوري - الروسي. ذلك أن سوريا المطلة على شمال المتوسط سارعت إلى عقد اتفاق مع روسيا لاستثمار حصتها من الثروة المكتشفة مما يضيف بعداً جديداً للعلاقات الخاصة بين دمشق وموسكو.
ودخلت الولايات المتحدة على خط التسوية بين لبنان وإسرائيل، وبين قبرص وتركيا، فتعثرت في الأولى وحققت نجاحاً في الثانية.? ?
فالجنوب اللبناني (الذي تتمركز فيه قوات الأمم المتحدة - يونيفيل - عملاً بقرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي صدر في أعقاب الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان في عام 2006) لا يزال يحتاج إلى رسم حدوده مع شمال فلسطين المحتلة. وتمتد هذه الحدود إلى البحر. فالخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة للحدود لا يمتد إلى المياه الإقليمية. وعندما رسم هذا الخط لم يكن النفط والغاز قد اكتشفا في البحر، ولذلك لم يفكر أي طرف لبناني أو إسرائيلي أو دولي في تكملة عملية رسم الحدود حتى تشمل المياه الإقليمية. أما بعد الاكتشاف فإن الأمم المتحدة، وليس لبنان وإسرائيل وحدهما، تواجه المشكلة المستحدثة.
لم تنتظر إسرائيل رسم الحدود لتمنح الامتيازات بالاستثمار. غير أن لبنان كان مضطراً لانتظار تشكيل حكومة جديدة حتى يكون منح الاستثمار شرعياً. وقد تأخر تشكيل الحكومة أكثر من عشرة أشهر. أما وقد أصبحت للبنان حكومة جديدة الآن، فإن مشاريع العقود المعدة سابقاً تحتاج إلى إقرارها في مجلس الوزراء الجديد. وعندها يتبين مدى التداخل في تحديد المواقع بين ما ادّعته إسرائيل لنفسها وبدأت باستثماره، وما يعتبره لبنان حقاً سيادياً له يحتاج إلى استثماره. فلبنان الذي ينوء تحت عبء دَين عام يزيد على السبعين مليار دولار، والذي يعاني من ركود اقتصادي حاد وبطالة مرتفعة نتيجة تداعيات الأزمة السورية عليه أمنياً وسياسياً، يجد في العائدات المنتظرة من آبار الغاز إنقاذاً له من الهوة السحيقة التي وقع فيها.
غير أن ثمة عدة عوامل تشكل سداً في وجه هذه التطلعات اللبنانية، منها: المطامع الإسرائيلية، واستضعاف إسرائيل للبنان، والانقسامات الداخلية اللبنانية، والانحياز الأميركي لإسرائيل.
أما الصورة في شمال المتوسط فتبدو أقل تعقيداً، ذلك أنه ما أن أعلنت الحكومة التركية أنها معنية بالثروة المكتشفة وأنها تتمسك بحصتها منها، حتى دخلت الولايات المتحدة على خط المصالحة التركية - القبرصية. وقد تمثل ذلك في استئناف الحوار القبرصي - القبرصي بعد أن توقف منذ عام 2004.
وكان الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان قد قدم خطة عمل لتسوية القضية القبرصية. وقد وافق الجانب القبرصي التركي على الخطة في استفتاء عام، إلا أن الجانب القبرصي اليوناني رفضها. وبعد الرفض انضمت قبرص اليونانية إلى الاتحاد الأوروبي. وأصبح همّها منذ ذلك الوقت هو ممارسة حقها «الجديد» في رفع «الفيتو» ضد طلب انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد. غير أن تطلعات قبرص أصيبت بنكسة شديدة في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بها، ولم ينقذها منها - مؤقتاً - سوى القرض الذي قدمه لها الاتحاد الأوروبي بقيمة عشرة مليارات دولار. ومع ذلك فإن قبرص -اليونانية - تعاني اليوم من اقتصاد ضعيف ومتهالك، إذ تراجع الدخل القومي 6 في المئة في عام 2013، وارتفعت نسبة البطالة إلى رقم قياسي بلغ 17 في المئة.
ولذلك تتطلع قبرص - مثل لبنان - إلى الثروة المكتشفة من الغاز كخشبة إنقاذ لها من الغرق. ولكن تحول من دون ذلك المشكلة مع قبرص التركية التي تعتبر نفسها مالكة لهذه الثروة مثل قبرص اليونانية، والمشكلة مع تركيا الدولة العسكرية القوية التي تعتبر أن مواقع الآبار المكتشفة تقع في المياه المشتركة معها.
ومن هنا كان لابد من تفاهم قبرصي - قبرصي يؤسس لتفاهم قبرصي - تركي. وهو ما عملت عليه الولايات المتحدة بنجاح حتى الآن. ويتمثل ذلك فيما بات يعرف بـ«مخطط أوباما». ويدعو هذا المخطط إلى استئناف المفاوضات بين الرئيسين القبرصيين نيكوس أناستاسيادس ودرويش إيروغلو، برعاية الأمم المتحدة لتحويل قبرص إلى دولة اتحادية. وبالفعل استؤنفت المفاوضات بينهما، وأعلن الطرفان أنهما يصران على مواصلتها إلى أن يتوصلا إلى تفاهم كامل. وذلك على عكس ما كان يحدث في السابق.
ومما شجع الطرفين على إبداء هذا الحرص على التفاهم - إضافة إلى الحاجة الماسة إلى عائدات الغاز - هو أن الشركات المستثمرة - وهي شركات أميركية - أبلغت الجانب القبرصي اليوناني عدم جدوى مشروع مد خط لأنابيب الغاز من المواقع المكتشفة إلى جزيرة كريت، ومنها، إلى اليونان فإيطاليا. ذلك أن تكلفة هذا الخط ستكون مرتفعة جداً مما يرفع أسعار الغاز المستخرَج ويخرجه من المنافسة الدولية.
وبدلاً من ذلك، وضعت هذه الشركات مخططاً مختلفاً لمد خط من الأنابيب مباشرة إلى تركيا - القريبة جداً - ومنها يضخ إلى الأسواق المتعطشة للطاقة في أوروبا. فتركيا اليوم أصبحت مصباً للنفط والغاز من آسيا الوسطى (أوزبكستان) والقوقاز (أذربيجان) والشرق الأوسط (العراق) وستصبح فوق ذلك مصباً للنفط والغاز من شرق المتوسط.
لقد أدركت حكومة الرئيس القبرصي أناستاسيادس في نيقوسيا أنه لابد من التفاهم مع الشطر التركي من قبرص. وأنه لابد من التفاهم مع تركيا. فكان الموقف الجديد من المفاوضات التي ينتظر أن تسفر عن ولادة قبرص اتحادية.
لقد حرك اكتشاف الثروة من الطاقة في شرق البحر المتوسط المياه الراكدة في العلاقات بين دول المنطقة. وفتح آفاقاً جديدة للتفاهم كانت مغلقة تماماً. فالدبلوماسية الأميركية تأمل إذا نجحت مساعي جون كيري بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية على أساس حل الدولتين، سحب فتيل الخلاف اللبناني - الإسرائيلي في رسم الحدود البحرية بينهما، بما يرفع الخطر عن المنصات العائمة سواء من عدوان الطائرات الحربية الإسرائيلية أو من تهديد صواريخ «حزب الله»!
قد يبدو ذلك مجرد أضغاث أحلام، كما حدث مراراً في السابق. فالصراع التركي - القبرصي عمره 40 سنة. والصراع العربي - الإسرائيلي عمره ضعف ذلك تقريباً. ومن السذاجة الاعتقاد بأن الثروة من النفط والغاز فيها من البركة ما يحقق معجزة التوافق في زمن اللامعجزات. إلا أن هذا ما تعتقده الدبلوماسية الأميركية على الأقل!