لم يتأخّر أغلب الممانعين العرب وأشدّهم تعبيريةً في إعلان اصطفافهم الحاسم إلى جانب روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين في النزاع الأوكرانيّ المندلع منذ بضعة أسابيع. فقد تحدّثوا بشيء من الإسهاب والاستفاضة عما اعتبروه «مؤامرة» أميركيّة وأوروبية غربية على أوكرانيا ومن ورائها روسيا، من أجل إلحاق الأولى وتخريب الثانية. وبدورهم ذهب بعضهم إلى حد اتهام الغرب، لاسيما الولايات المتحدة، بالسعي النشيط إلى استعادة زمن الحرب الباردة. وفي هذا المنطق ما يثير الشفقة على أصحابه لأسباب كثيرة من أهمها أن الإدارة الحالية في الولايات المتحدة، والتي يتربع في قمتها الرئيس باراك أوباما، هي من أكثر الإدارات الأميركية عزوفاً عن التدخلات الخارجية وما قد تستجره من حروب منذ العشرينيات، حين بدأت الولايات المتحدة تكسر عزلتها وتنخرط في هموم العالم ومشاغله. وهذا ما رأيناه واضحاً في سوريا، كما نراه في الاقتصار على إجراءات فاترة مصحوبة بالصوت المرتفع حيال روسيا، ناهيك عن سياسة الانسحاب من المواجهات أكانت في العراق أو في أفغانستان. بيد أن الممانعين لا يأبهون لذلك ولا يعنيهم. فهم لا يستطيعون أن يروا أنفسهم إلا في الموقع النقيض للموقع الذي تشغله الولايات المتحدة وباقي الغرب. والحال أن هذه النزعة المناهضة لأميركا تتغذى اليوم من الموقف حيال الثورة والأزمة السوريتين، خصوصاً وقد ساد على نطاق واسع عقد المقارنات بين الوضعين السوري والأوكراني. فالممانعون، وهم المؤيدون بحماسة لنظام الأسد، لا يستطيعون إلا أن يكونوا إلى جانب روسيا، ما دام أن الأخيرة تدعم النظام المذكور الذي يمحضونه تأييدهم وحماستهم. وهذا لا يعني أن النزاع في أوكرانيا محصور باللونين الأبيض والأسود، أو بالأخيار والأشرار. فهو يتقاطع مع مشكلة معقدة تتصل بالانقسام الإثني واللغوي والديني بين الأوكرانيين أنفسهم، وبالتالي بوجود نسبة معتبرة من الروس في عداد «الشعب» الأوكراني. وكذلك فإن القيادة الأوكرانية المؤيدة للانفتاح على أوروبا تضم رموزاً لا يقلّون فساداً عن قيادة يانوكوفيتش المؤيدة للانفتاح على موسكو والمستظلة بها. وفوق هذا، فإن التقليد الوطني الأوكراني المناهض للروس يصطبغ، أقله منذ الحرب العالمية الثانية، بنزوع فاشي لا يُنكَر. ومن ناحية ثانية، فإن السلوك الغربي حيال روسيا ما بعد انتهاء الحرب الباردة ليس من النوع الذي يداوي النرجسية الروسية الجريحة. فهذا السلوك سبق أن استفزها، خصوصاً مع انتشار حلف الأطلسي شرقاً، ومع الارتياح لعهد يلتسين الذي رآه الروس، بحقّ، معيباً لهم ومسيئاً إلى كرامتهم الوطنية. ولكن تلك التفاصيل، وهي مهمة فعلاً، لا تغيّب الوجهة العامة للصراع مع نظام يسعى إلى استعادة البناء الإمبراطوري للاتحاد السوفييتي السابق. فرداءة الطبقة السياسية في طرفي النزاع الأوكراني لا تحجب الصراع على الأرض بين مشروعين متقابلين، كما أن سياسة أوباما تجاه الخارج تختلف جذرياً عن السياسة التي اتبعها نظراؤه السابقون في البيت الأبيض، بمن فيهم «رفيقه» الديمقراطي بيل كلينتون. أما الحمولة الفاشية للنزعة الوطنية في أوكرانيا فأغلب الظن أنها لم تعد سبباً للخوف الذي كانت عليه قبلاً. فالنازية والفاشية أصبحتا من ماضي أوروبا المذموم، ولم يعد لهما أي موقع مؤثّر في عواصم تلك القارة، إذ الأمم الأوروبية التي تحاول الوطنية الأوكرانية الالتحاق بها هي اليوم كلها ديمقراطية برلمانية. ويمكن هنا الاستشهاد بالتجربة الكرواتية في يوغسلافيا السابقة التي ذهبت هي الأخرى بعيداً في فاشيتها وفي تقليدها للنازية الألمانية وتعاملها معها. إلا أن الوجه الغالب على كرواتيا اليوم، أي ما بعد تفسخ يوغسلافيا السابقة، هو العمل على تطوير تجربتها الديمقراطية وتعميق أوروبيتها. وكذلك يمكن الرجوع إلى انقلاب الأدوار الذي شهدته صربيا ومسلمو البوسنة. ذاك أن الوطنية الصربية هي التي قادت، إبان الحرب العالمية الثانية، مهمة التصدي للنازيين من خلال مقاتلي «الأنصار» الذين تزعمهم جوزيف بروز تيتو، بينما ظهرت حالات تعامل جدي مع النازيين في أوساط مسلمي البوسنة. ولكنْ في التسعينيات اضطلعت الوطنية الصربية بدور الجلاد الذي مثلته قيادة ميلوسوفيتش وملاديتش مقابل تحول مسلمي البوسنة، ثم كوسوفو، إلى الطرف الذي تحتضنه الديمقراطيات الغربية وتؤثر فيه بعد مساهمتها العسكرية الكبرى في رفع الاضطهاد الصربي عنه. وقصارى القول إن الموضوع الأساس لا يكمن هنا أو هناك، على رغم أهمية تلك التفاصيل والوقائع. فالمسألة الأم إنما يجسدها مشروع بوتين لاستعادة القبضة الامبراطورية لروسيا، مع ما يعنيه ذلك من تدخل في البلدان المجاورة التي كانت سابقاً أجزاء من الاتحاد السوفييتي، ومنعها تالياً من الاقتراب من الغرب والتأثر بتجربته في الديمقراطية البرلمانية. وحين يقف الممانعون العرب إلى جانب هذا المشروع التوسعي، فإنهم يكررون ما فعله أسلافهم في أوقات سابقة. ومعروف أن بعض الراديكاليين العرب تعاطفوا مع هتلر وموسوليني في الثلاثينيات والنصف الأول من الأربعينيات، ولم يخف هذا التأثر الذي انعكس على تراكيب الأحزاب القومية التي نشأت آنذاك في المنطقة العربية. وبعد ذاك تعاطفوا مع الاتحاد السوفييتي ومنظومته وحاولوا تقليدهما والتعلم منهما في بناء الدول والمجتمعات. فحين برزت ظاهرة المنشقين السوفييت المطالبين بالحرية وحق السفر وبعض حقوق الإنسان الأخرى، اتهمهم الراديكاليون العرب بالصهينة والجاسوسية للولايات المتحدة ودول الغرب. ولم يتغير الأمر مع اندلاع ثورات أوروبا الوسطى والشرقية وانهيار حائط برلين مما نُظر إليه بكثير من الشك وكثير من الاستياء. واليوم يعيد الموقف الممانع من أوكرانيا ونزاعها تذكيرنا بهذا الميل العميق إلى الوقوف حيث يقف الطغيان، بعيداً عن الموقع الذي تقيم فيه الحرية. وفي الحدود التي يمكن القول فيها إن هؤلاء الممانعين يمثلون العرب، يتضح جلياً كم أنهم يسيئون إلى العرب وصورتهم لدى الرأي العام الديمقراطي في العالم بأسره، تاركين لإسرائيل أن تتزعم التعبير عن مناصرة قضايا الحرية.