الطب التطوري.. وأمراض الحضارة
أدت بعض أفكار نظرية التطور البيولوجي، أو النشوء والارتقاء، من خلال سبل الانتقاء أو الانتخاب الطبيعي التي يعتبر العالم البريطاني «تشارلز داروين» أول من أسس لها من خلال كتابه الشهير «أصل الأنواع»، إلى إحداث تغيرات مهمة في المفاهيم الأساسية للعديد من المجالات العلمية، بقدر يمكن وصفه بأنه قد غير من مسار التفكير العلمي الحديث بشكل جذري. وأحد تلك المجالات العلمية التي تأثرت، بل في الحقيقة نشأت كنتيجة طبيعية لنظرية النشوء والارتقاء، هو المجال المعروف بالطب التطوري (Evolutionary Medicine).
ويُعنى هذا المجال العلمي الحديث نسبياً، والذي يطلق عليه أحياناً اسم «الطب الدارويني» نسبة إلى داروين، بتوظيف أطروحات نظرية النشوء والارتقاء، لفهم طبيعة الصحة والمرض لدى البشر، بهدف الإجابة على سؤال: لماذا يصاب البعض بالأمراض؟ وليس مجرد سؤال: كيف تحدث أو تقع الأمراض؟ أي أن السؤال المحوري هنا هو: لماذا؟ وليس كيف؟ فعلى عكس الأبحاث والممارسات الطبية الحديثة التقليدية، التي تركز على طبيعة الميكانيزمات الفسيولوجية والجزيئية خلف الصحة والمرض، نجد أن الطب التطوري يركز على فهم ما يعتبره الأسباب الأصلية التي جعلت التطور البيولوجي، يشكل تلك الميكانيزمات، بطريقة تجعلنا حالياً عرضة للإصابة بتلك الأمراض. وآثار هذا المنهج المختلف في التفكير، تجسدت في اختراقات مهمة واكتشافات جمة، مثل زيادة فهمنا لقدرة الجراثيم على توليد مناعة ضد المضادات الحيوية، وأسباب وطبيعة الأمراض السرطانية، وأمراض المناعة الذاتية، وحتى في فهمنا الأساسي لتشريح وتركيب الجسم البشري. ولكن على رغم هذه الأهمية والفوائد التي أصبحت العلوم الطبية الحديثة تجنيها من بعض أفكار الطب التطوري، إلا أنه لا يزال لا يدرج بشكل عميق في مناهج كليات الطب، لا لشيء، إلا أن المناهج الدراسية الطبية الحالية، متخمة ومثقلة بالفعل بالكثير من العلوم والمعارف.
وتتأتي أهمية دراسة الطب التطوري وسبر أغواره، من حقيقة أن تطور الإنسان من المنظور البيولوجي، والفسيولوجي، والتشريحي، وفق زعم تلك النظرية، لا يزال متوقفاً عند مرحلة الصيد والجمع، والحياة في مجتمعات بدائية صغيرة، وهو ما يختلف بشكل كبير عن متطلبات البيئة والحياة العصرية الحديثة. بمعنى أننا نعيش في العصر الحالي، بظروفه الخاصة، الغذائية، والصحية، والمجتمعية، بأجساد، وأجهزة، وأعضاء، وخلايا، صممت لحياة الصيد والجمع، عندما كان الغذاء أقل توافراً، وأقل محتوى من الدهون والسكريات، وبمحتوى أكبر من الألياف والخضراوات، وعندما كان المجهود البدني أيضاً جزءاً أساسياً وروتينياً من النشاطات اليومية، وهو ما جعلنا عرضة لمجموعة من الأمراض لم تكن تصيب أسلافنا بهذه المعدلات، أو بتلك الحدة، وهي التي أصبحت تعرف بأمراض الثراء، أو مجموعة أمراض الحضارة (Diseases of Civilization).
وتتضمن حالياً هذه المجموعة -التي يطلق عليها أحياناً أيضاً لقب أمراض نمط أو أسلوب الحياة- مجموعة متنوعة من الأمراض والعلل، مثل: السمنة، وداء السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب والشرايين مثل الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، والتهاب المفاصل، والأزمة الشُّعبية أو الربو، ومرض الزهايمر، وبعض أنواع الأمراض السرطانية، وتليُّف الكبد المزمن، والانسداد الرئوي المزمن، والفشل الكلوي المزمن، وهشاشة العظام، وحتى الاكتئاب، وعدد من الاضطرابات النفسية.
ومن السهل ملاحظة أن بعض هذه الأمراض ترتبط بالتقدم في العمر، فكلما زاد العمر زادت احتمالات الإصابة، مثل: الزهايمر، والسرطان، والتهاب المفاصل، وأمراض القلب والشرايين. وإن كان لابد أيضاً من التفرقة بين زيادة المعدلات الناتجة عن زيادة متوسط أو مؤمل الحياة، الذي حقق الجنس البشري تطوراً واضحاً فيه، حيث ارتفع مؤمل الحياة للبشر بمقدار عدة عقود، خلال بضعة قرون، وبين زيادة معدلات الأمراض الناتجة عن تغير في نمط وأسلوب الحياة، وخصوصاً نوعية الغذاء، مثل داء السكري، وتسوس الأسنان، والأزمة الشعبية، التي تنتشر بمعدلات أكبر بين الشباب وصغار السن، القاطنين في دول غنية يحيا أفرادها نمط الحياة الغربية العصرية.
ويمكن إدراك وقع أمراض الحضارة والثراء على صحة أفراد الجنس البشري من خلال مقارنة أهم أسباب الوفيات، في بداية ومنتصف القرن الماضي. ففي بداية القرن كانت الأمراض المُعدية، وخصوصاً الالتهاب الرئوي والإنفلونزا، والسل، وأمراض الإسهال والنزلات المعوية، تشكل 60 في المئة من أسباب الوفيات بين البشر. ولكن مع حلول منتصف القرن -وحتى الآن- أصبحت الأمراض المرتبطة بنمط الحياة، وبالتقدم في العمر، هي المسؤولة عن السواد الأعظم من الوفيات بين البشر.
ومثل هذه النظرة الشمولية، الممتدة عبر قرون، وأحياناً عبر آلاف السنين، للأسباب التي تجعل الإنسان ككائن حي معرضاً للإصابة والوفاة بأمراض تختلف طبيعتها وميكانيزماتها عبر الزمن والعصور، ستنتج عنها حتماً آليات، وإجراءات، وسبل وقائية وعلاجية، تخفف من العبء المرضي لتلك الأمراض، وتخفض من فداحة الثمن الإنساني الناتج عنها. وهي الآمال التي تعلق على بعض أفكار الطب التطوري، الذي رغم بداياته المتواضعة في تسعينيات القرن الماضي، إلا أنه شهد تطوراً كبيراً خلال فترة قصيرة، ونجح في تعميق نطاق ومدى المعرفة الطبية، وأثمر عدة تطبيقات، ربما يكتب لها أن تغير من طبيعة الصراع التاريخي بين الإنسان والمرض.