روسيا ووهن القوة الغربية
هناك قاعدة دبلوماسية معروفة عند الدبلوماسيين المحنكين هي أنهم يكرهون المخاطبين غير المتوقعين. وليست هذه القاعدة على حد تعبير الكاتب بيوتر سيمولار مسألة اختلال بين الأقوال والأفعال -وهو داء عضال مستشر في أصول الدبلوماسية العالمية- ولكنها في صلب اللعبة السياسية نفسها، ولهذا السبب أحدث ضم روسيا لشبه جزيرة القرم هزة في النظام الأوروبي ومخلخلاً للنظام الدولي بأسره، مستلزماً من الأميركيين والأوروبيين تنديداً وتهديداً واجتماعات متتالية ولكن وهناً أيضاً وضعفاً في صياغة استراتيجية واضحة المعالم ومؤثرة على السياسة والاقتصاد الروسيين. فكل الاتفاقيات الدولية التي وقعت مع روسيا، بما فيها تلك المتعلقة باحتواء أسلحة الدمار الشامل والشراكات التجارية والاقتصادية قد تعتريها اهتزازات مدوية ولكن ليس بالدرجة المتوقعة كما يمكن أن تحدثه العقوبات على عراق صدام أو على إيران، لأن روسيا قوة عسكرية كبيرة، وكانت أحد طرفي الصراع الرئيسيين في الحرب الباردة، ولها حضور في السياسة الخارجية الدولية وصوت مؤثر في مجلس الأمن، كما أن لها أوراقاً استراتيجية يمكن أن تستعملها ضد الغرب في سوريا وإيران وغيرهما.
ويمكن أن نستخلص من أزمة شبه جزيرة القرم ثلاثة دروس رئيسة:
أولاً: البيئة الدولية المعاصرة أضحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى، ويكفي الرجوع إلى الكتاب القيم الذي ألفه منظر العلاقات الدولية الفرنسي برتران بادي? ?Bertrand Badie لتمثل? ?ذلك، ?إذ? ?طور? ?نظرية? ?اختزلها? ?في? ?كلمتين? «?وهن? ?القوة?» ?واعتمادا? ?على? ?نظريات? ?لإيميل? ?دوركايم? ?وهيغو? ?كروتيوس? ?أكد? ?أن? ?القوة? ?بمفهومها? ?التقليدي? ?الكلاسيكي? ?فقدت? ?أكثر? ?من? ?معنى? ?مع? ?ازدياد? ?الفاعلين? ?في? ?البيئة? ?الدولية? ?المعقدة...? ?فلم? ?تعد? ?بعض? ?الدول? ?القوية? ?كالولايات? ?المتحدة? ?الأميركية? ?تتوفر? ?على? ?نفس? ?الردع? ?الاقتصادي? ?والعسكري? ?والحمائي? ?بل? ?وحتى? ?الثقافي? ?كما? ?كان? ?عندها? ?في? ?السابق. ولم? ?يعد? ?للثنائية? ?القطبية? ?أو? ?الأحادية? ?القطبية? ?نفس? ?المدلول? ?مع? ?صعود? ?اقتصادات? ?الدول? ?الآسيوية? ?واتساع? ?رقعة? ?الأزمة? ?المالية? ?العالمية? ?والتنافس? ?التجاري? ?الدولي، ?وتنامي? ?الإجرام? ?العالمي? ?وعولمة? ?الخدمات? ?وتنامي? ?دور? ?الأفراد? ?في? ?العلاقات? ?الدولية.? وكثيرة? ?هي? ?الأسئلة? ?التي? ?نطرحها? ?معه? ?ومع? ?المنظر? ?الأوروبي? ?فريدريك? ?شاريون،? ?ويمكن? ?أن? ?نختزلها? ?في? ?سؤالين? ?اثنين:? ?أما? ?السؤال? ?الأول? ?فيرتبط? ?بقدراتنا? ?الخاصة? ?على? ?قراءة? ?العلاقات? ?الدولية? ?التي? ?أصبحت? ?معقدة جداً.? ?وأما? ?السؤال? ?الثاني? ?فيخص? ?التمييز? ?الذي? ?أضحى? ?أكثر? ?فأكثر? ?غموضاً? ?بين? ?ما? ?قد? ?يرتبط? ?بالمجال? ?العقلاني? ?والمجال? ?اللاعقلاني.? ????
ثانياً: روسيا في ظل هذه البيئة الدولية المعقدة ظهرت على شكل قوة تثق في نفسها وتستعمل في براهينها وتفسيراتها أدبيات الديمقراطية الغربية (الاستفتاء، تصريحات سكان القرم في وسائل الإعلام المختلفة، وهناك حوالي ثلاثة ملايين من السكان يعيشون في القرم) في مقابل دول أوروبية غربية تعتبرها روسيا ضعيفة في الساحة الدولية وضعيفة عسكرياً... والبعض باستحضار هذه الوقائع يتحدث عن حرب باردة جديدة... والحقيقة أننا أبعد ما نكون عن تواجد كتلتين رئيسيتين أو أكثر تمثل أو بإمكانها أن تمثل أطراف هذه الحرب الباردة... بل إن روسيا تفوقت على المعسكر الغربي في غياب هذه الحرب واستفادت من تواجد فراغ استراتيجي في لعبة شطرنج الحرب الباردة السالفة... ثم إن الدول الغربية لا يمكنها أن تعلن الحرب على روسيا أو أن ترسل صواريخها إلى موسكو وإلا شهدنا قيام حرب عالمية جديدة.
ثالثاً: الرئيس الروسي يعي جيداً مفهوم القوة، وبالضبط المفهوم الذي أعطاه المحلل والمنظر الاستراتيجي الأميركي الكبير جوزيف ناي، أي القدرة على تحقيق النتائج التي يريدها المرء، وتتباين الموارد التي تنتج هذه القوة في مختلف السياقات، فإسبانيا استغلت سيطرتها على المستعمرات وتجارة سبائك الذهب في القرن السادس عشر، وهولندا تربحت من التجارة والتمويل في القرن السابع عشر، وفرنسا استفادت من كثرة تعداد سكانها وجيوشها في القرن الثامن عشر، والمملكة المتحدة استمدت قوتها ممن سبقها في الثورة الصناعية ومن بحريتها في القرن التاسع عشر، أما هذا القرن فيتسم بثورة فتية في تكنولوجيا المعلومات والعولمة... وفي هذه الحالة فإن الاحتواء الاقتصادي والسياسي هو أخطر ما يمكن أن تعاني منه دولة مثل روسيا اقتصادياً وتجارياً وعسكرياً وتواجداً في الساحة الدولية.
ولنتذكر بعض ما قيل في يوم 9 فبراير 1990، حين وعد كاتب الدولة في الخارجية الأميركية جيمس بيكر (في عهد إدارة بوش الأب) ميخائيل جورباتشوف في قاعة كاترين 2، القاعة التاريخية للكرملين، بأن التحالف الغربي لن يضم ولن يزحف نحو الدول الشرقية إذا قبلت روسيا انضمام ألمانيا الموحدة إلى قلب الحلف الأطلسي. وبدوره وزير الخارجية الألماني آنذاك هانز ديتريش جينشر قال كلاماً أكثر طمأنة من نظيره الأميركي لوزير الخارجية السوفييتي آنذاك أدوارد شيفرنادزة مؤداه أن الحلف الأطلسي لن يضم أية دولة من الدول الشرقية. والبولونديون والتشيكيون والهنغاريون انضموا إلى الحلف الأطلسي سنة 1999 والبلغاريون والرومانيون والسلوفاكيون انضموا إلى هذا الحلف العسكري سنة 2004 وكانت أوكرانيا أيضاً على وشك الانضمام إلى الحلف الأطلسي... بمعنى أن بوتين يقابل هذه القوة الزاحفة بقوة مضادة، وهو ما يفسر ما قالته أنجيلا ميركل: إن بوتين يعيش في عالم آخر. وأظن أنها تريد أن تقول عالم رجل أحس بالخيانة.