يتردد القلم في الرثاء، ويتقطع الحبر مشاركة في العزاء، تلتفت يمنة ويسرة، شمالا ويميناً، فتجد الصحاري شاحبة حزناً، وتقفر الفيافي متشحة بسواد من الفجيعة على فقيد افتقدته الأرض قبل البشر.
رحل الشيخ زايد إلى رب العزة والجلال في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وقد ترك وراءه مآثر وأعمالاً خالدة ستبقى شاهدة عبر الأجيال والعصور على مرحلة قائد ليس ككل القادة، وزعيم ليس ككل الزعماء.
رحل الفقيد وخلف وراءه حزناً في القلوب، ودعوات بالرحمة والغفران في هذه الليالي المباركة، وألسنة تلهج بالثناء والتقدير لبصمات راسخة من أعمال الخير والبناء لن تتلاشى برحيله، ولن تغيب بغيابه عن وجه البسيطة.
رحل الشيخ زايد وخلف وراءه بلاداً مخضرة بالعطاء والبناء، وأجيالا تمتشق المعرفة والعلم وتنعم بالرخاء والنماء، ومواقف ستبقى أحافير للتاريخ لن ينساها من عاصر مرحلة هذا الرجل العظيم.
لن ينسى شعبه الوفي قط، كيف تحولت بلادهم في عهده الميمون من إمارات متعددة إلى دولة متحدة، يفد إليها الناس من كل حدب وصوب بحثاً عن العمل والعيش الكريم، ويزورها الملايين للتجارة والسياحة والعلم والطبابة، وكيف تحولت بفعل الإرادة والقيادة إلى جنة خضراء بعد أن كانت يباباً وقفراً.
رحل الرجل وقلبه وفكره ومواقفه متعلقة بالحق دوماً، كان سنداً لا يلين لفلسطين وأهلها، وطوداً شامخاً في وجه تصفية الإنسان الفلسطيني، كانت عينه على مساندة الإنسان الفلسطيني ليتمكن من البقاء والاستمرار، وكان يعطي بسخاء لدعم القضية دون مزايدة أو تكسب.. وبلا منة.
كان الشيخ زايد معيناً من العطاء لا ينضب، فوجه الكثير من مقدرات بلاده وخيراتها في مشاريع الخير للإنسان العربي في كل مكان، وكان يهدف إلى توجيه تلك المشاريع للبنى التحتية للبلدان الفقيرة- عربية كانت أم غير عربية.
دخلت عدداً من الدواوين البارحة في مناطق مختلفة في الكويت، فوجدت الحزن مخيماً على الجميع، وخالطت المرارة حلاوة الليالي الأخيرة من شهر رمضان الكريم، وطغت عبارة "عظم الله أجركم" على العبارات الرمضانية التي يكررها الجميع في هذا الشهر الكريم، فالكويتيون لن ينسوا موقف زايد التاريخي الذي وقف بغضبة مضرية عندما تعرضت الكويت وشعبها للاحتلال من قبل صدام وجيشه عام 1990، ولن ينسى الكويتيون أبداً كيف أن دولة الإمارات العربية المتحدة التي كان يرأسها المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد قد تحولت بين ليلة وضحاها إلى كويت ثانية مؤقتة، ففتحت الإمارات ذراعيها، والتفت سواعد زايد الخير حول كل الكويتيين الذين شردهم القهر والاحتلال، فكان لهم المعين، وكان لهم السند في وقت تلك المحنة القاسية.
بكت الإمارات وناحت دول الخليج قاطبة، على رحيل مخزن الحكمة وعنوان التآلف بين دول المجلس، فلقد كان الفقيد مرجعاً في وقت التباين، وحكماً في زمن الاختلافات، وكان همه الخليجي ملتصقاً بهمه في الإمارات، فكان وحدوياً في الإمارات، وتعاونياً في الخليج، عروبياً في العمق، مسلماً في الأبعاد، وإنساناً في العطاء والمحبة.
لقد انفطرت قلوب كل العرب الصادقين حزناً على رحيل الشيخ زايد، وسوف يفتقده كل من أدركوا دوره ومواقفه الفريدة، ولكن الحزن قد يعمي البعض من أن يرى بالعين المجردة في طوابير العزاء آخرين أصابتهم الفجيعة سيحضرون الجنازة، ولن يشاهدهم الآخرون، سوف تقف الحكمة والبصيرة، وسوف تصطف مع المعزين النظرة الثاقبة وبعد الرؤية. ففي زماننا المرير الذي تمر به الأمة، يغادرها قائد تميز بهذه الصفات، وزعيم يرى الأمور بأبعد من شواهدها وحوادثها وأحداثها... لن ينسى العراقيون أبداً كيف كانت أيادي زايد البيضاء ممتدة عطاء ومؤازرة لهم في أوقات محنتهم. ولن ينسى من يعرف للشجاعة والحكمة معنى مبادرته التاريخية في مؤتمر القمة بشرم الشيخ في ديسمبر عام 2002 حين بادر بشجاعة نادرة بضرورة رحيل صدام درءاً للحرب، وحقناً لدماء العرب والمسلمين وتوفيراً للخراب والدمار الذي حل،. لقد كان الشيخ زايد بتلك المبادرة شجاعاً شجاعة منقطعة النظير، ورحيماً عطوفاً على الإنسان العربي في كل مكان، وكان يرى الأمور بأبعد من صورتها المرئية، ويسبر أغوار الأحداث ببصيرة ندرت في زمان العتمة والظلمة الحالكة.. وما أحوجنا في هذه المرحلة إلى رجالات مثل الفقيد يمتشقون الحكمة، ويتحلون بالصبر ويرافقون البصيرة.
رحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وترك مؤسسات رسخت، وأنظمة تعززت، ورجالات شربوا من نهج العطاء، ونهلوا من أنهر النماء، ولن يحيدوا عن الدرب الذي رصفه الشيخ زايد بأحرف من نور، ورواه بعطاء وتضحية ستبقى خالدة في أجيال عديدة في دولة الإمارات العربية المتحدة.
سارعت إلى كتابة هذه المقالة، تعزية لنفسي، وحزناً على رجل افتقده أهله في الكويت والخليج، والأمة العربية والإسلامية، تماماً مثلما افتقده شعب الإمارات العربية المتحدة...
رحم الله الشيخ زايد وأسكنه فسيح جنات الخلد.. اللهم آمين.