كانت السنوات الواقعة بين 1970 و1972 سنوات حاسمة، ليس في نطاق الإمارات المتصالحة أو إمارات ساحل عمان فقط، بل وفي منطقة الجزيرة كلها. كان التحدي، كما قال الشيخ زايد وقتها، ليس الحصول على الاستقلال فحسب، إذ في إطار سياسة شرق السويس كانت بريطانيا (العظمى سابقاً) تريد الانسحاب على أي حال من المستعمرات ومناطق النفوذ السابقة - وهكذا فقد كان التحدي كيف يكون الاستقلال مقروناً بالوحدة، ومقروناً بالنمو، ليكون له معنىً وطعم غير ما كان عليه في أجزاء أخرى من الوطن العربي، والشرقين الأدنى والأقصى.
كان هناك في ذهن الشيخ إذن ذلك المثلث المترابط الأطراف بين الاستقلال والتوحّد والنمو. وقد اقتضى ذلك منه جهداً هائلاً استمر حتى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي ودار حول محورين اثنين: استحداث التوازن والتضامن والترابط المطلوب بين الأطراف المشاركة في الاتحاد، وطمأنة الخارج المجاور إلى أن الكيان الجديد ليس قاسياً وعدوانياً بحيث يستدعي الكسر، وليس ليناً ومتهافتاً بحيث يمكن عصره. في المجال الأول، مجال التضامن الداخلي، أراد الشيخ (والشيخ عند العرب من بلغ مرتبة أهل الفضل وإن كان في السن صغيراً) أن تمضي عملية التوحّد في المرافق والمصالح والسكان بحيث تصبح أضرار الانفصال، أكبر أعباء ومسؤوليات الاستمرار معاً، عندما تتأزم الأمور. وما كان التعود على التشاور وتبريد الرؤوس الحامية، والاعتماد المتبادل بدلاً من اللجوء للكبار في الجوار، أو للأفعى الجرهمي (رمزوا به في الخمسينيات والستينيات لبريطانيا) أمراً سهلاً في كل الأحوال. وكان على الشيخ أن يفاوض على سائر الجبهات، والتفاوض غير المنقطع، وعقد المجالس، والمحاسنة من أجل الإقناع، والإقناع بأنك عندما تفعل كذا أولا تفعل كذا إنما هو لصالحك أنت، وأنه ليس للشيخ غاية إلا أن تكون أنت بخير، كل ذلك كان الزاد الرئيسي الذي حمله زايد على كتفيه وبين يديه طوال العقود الثلاثة الماضية.
وقد تجلّت قدراته التفاوضية ووجوه قوته، وسعة رؤيته، في الدرجة العليا من التضامن التي استطاع الوصول والإيصال إليها في الداخل من جهة، وفي التعامل مع مشكلة ومشكلة الجزر، ومشكلة البريمي، ومشكلات الحدود الأخرى من جهة ثانية. وربما كان أول رجالات المشرق، في حقبة الحرب الباردة الذين أدركوا أن القوة العسكرية هي آخر الدواء، وأنها في الغالب بلاء وليست ميزة. وقد استطاع باللين دون ضعف، وبالقوة دون عنف أن يجعل من الكيان الوليد وحدة لا تنفصم عراها، وأن يبعث رسالة من الودّ والاحترام بل الهيبة لدى القريب والبعيد.
ومع أواسط الثمانينيات من القرن الماضي اعتبر الشيخ الجليل أن مرحلة التأسيس ومشكلاتها قد جرى إكمالها وتجاوزها. ولذلك انصرف للعمل في ثلاثة اتجاهات جديدة/ قديمة: أعمال التنمية الكبرى بالداخل، بالتعاون والمبادرة من جانب الإمارات الأخرى أحياناً، وأعمال التضامن العربي والإسلامي. وأعمال دعم الموقع العربي في المؤسسات الدولية، وفي العالم. وأحسب أن العمل التنموي الداخلي، الذي أوجد مجتمعاً، وصنع مؤسسات، وربط الناس بعضهم ببعض، كان أساس النجاح في المهمتين الأخريين: الموقع العربي، والموقع العالمي. فالمعروف أن الوطن العربي تعرض لهزات قوية بعد صلح كامب ديفيد، وتزعم العراق لسياسة المحاور. وقد جهد الشيخ على التعاون مع الأشقاء في الخليج لدعم مجلس التعاون، ليس دخولاً في سياسة المحاور، بل من أجل مجابهة الهزات والصدمات، وما رأى أن عزل مصر مفيد في أي شيء، وبخاصة بعد اغتيال الرئيس السادات. وقد كان الشيخ المتدين الطيب السريرة، كارهاً لكل تطرف وتشدد، سيّان أي لبوس ارتدى. ولذلك فقد اتخذ من مبادراته، ومن قوة مجلس التعاون الخليجي سبيلين لجمع الشمل، ولضم الشتات، وللالتفات للأولويات: قضية فلسطين، وقضية التوحد، الذي يتجاوز سياسات المحاور.
وقد أدرك الشيخ، من تجربته المنفتحة على ساحل المحيط، والمتجذرة في الداخل العربي الشاسع الأبعاد، أهمية الأصدقاء والحلفاء، ولذلك فقد وثّق صلاته بالمؤسسات الدولية، ومدّ علاقات بالمسلمين والآسيويين، وأصغى بودٍ وتعاطف لنداءات الدول والمؤسسات لمكافحة الفقر، ومشكلات البيئة، وقضايا الأمن والاستقرار الدوليين.
ومع ذلك فقد كانت فجيعته كبيرة بحربي الخليج، وبالحرب اليمنية الداخلية، وبتفاقم الصراع في فلسطين، وأخيراً بالحرب على العراق، التي حاول منعها بشتى الوسائل والمبادرات.
يفارق الشيخ زايد هذه الدنيا، وقد ترك دولة فعلية راسخة الأركان، وأجيالاً جديدة وشابة من الأمراء والأبناء والنُخب، التي ربّاها على خدمة الناس، وللأمانة لقضايا الأمة، والتفاني في خدمة دولة الوحدة واتحادها:
كواكب دجنٍ كلما انقضى كوكبٌ
بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه
رحم الله الشيخ زايد، الإنسان، والقائد والوالد الحاني، ورجل الدولة الزاهرة.