لابد من التذكير بما نراه بديهة مُجمعاً عليها، وهو أن العدل والأخلاق يقتضيان أن تقوم دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وأن تُفكّك المستوطنات اليهودية التي تحول دون ذلك، وأن يتوقف الاستيطان مرة وإلى الأبد. هذه الدولة الفلسطينية ينبغي أن تنهض، ربّما مع تعديلات طفيفة جداً، فوق الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 من فلسطين التاريخية، أي الضفة الغربية وقطاع غزة. كذلك لابد أن تكون لهذه الدولة عاصمتها، أيضاً مع احتمال تعديلات طفيفة جداً، فوق الشطر الشرقي من مدينة القدس. والحال أنه فضلاً عن العدل والأخلاق، فإن المصلحة تقتضي ذلك: مصلحة الفلسطينيين والإسرائيليين وسكان الشرق الأوسط، هذا ناهيك عن أن مصلحة دول العالم الباحثة عن الاستقرار تقتضيه. هل هذا ممكن اليوم؟ لا، لأسباب كثيرة: فأولاً، ليست إسرائيل في ظلّ نتنياهو وتكتّل «ليكود»، وفي ظل ضعف المعارضة لاسيما فرعها العمالي، في وارد التسوية. فهم مطمئنون إلى توازن القوى الحالي، يمارسون المماطلة والتسويف بكثير من السينيكية. ويعرف حكام إسرائيل اليوم أن الدول العربية المحيطة بهم، وحتى لو أرادت أن تضغط عليهم، فإنها لن تملك أية قدرة على ذلك. فمصر، وإلى زمن سيطول، ستكون مشغولة بهمومها السياسية والاقتصادية، فيما سوريا مدمّرة تماماً وليس ثمة أفق واضح يدل على وجود خلاص سوري. حتى «حزب الله» الذي يصف نفسه بأنه الحزب المُعد لمقاومة إسرائيل، غارق في مستنقع النزاع السوري. ثانياً، ليس الوضع الدولي، وبالأخص وضع الولايات المتحدة في ظل رئاسة أوباما، ملائماً للضغط على إسرائيل. فهذه الإدارة الضعيفة والمترددة قد تملك النوايا الحسنة إلا أن كل الجهود التي بذلها أوباما ويبذلها حالياً وزير خارجيته جون كيري، لا تكفي لتغيير الواقع الذي ينبغي تغييره. ثالثاً، إن الوضع العربي في عمومه لم يعد معنياً بالصراع مع إسرائيل أو الضغط للتأثير فيه، وهذا يصح في الأنظمة بقدر ما يصح في الشعوب. فمع ثورات «الربيع العربي» في خمسة بلدان (تونس، ليبيا، مصر، اليمن، سوريا)، تبين بوضوح مدهش وبليغ أن الموضوع الفلسطيني- الإسرائيلي لم يعد على أجندة أي من هذه الشعوب. أما الأنظمة فبادرت، منذ 1978، إلى عقد اتفاقات سلام ابتدأتها مصر وحذا الأردن حذوها في 1994، بعد عام على توقيع الفلسطينيين أنفسهم معاهدة سلام مع الإسرائيليين. وفي 1983- 1984 كان لبنان على وشك توقيع اتفاق ما مع الإسرائيليين، اتفاقٍ هو أقل من معاهدة سلام، إلا أنه مُنع بالقوة من ذلك. وواقع الحال أن هذه الوجهة كانت قد كشفت قبل ذلك عن نفسها، ولو بشكل مُداور. فالدول العربية التي قاتلت إسرائيل في 1948 كانت سبعاً، وانخفض العدد في 1967 إلى ثلاث، ثمّ في 1973 إلى اثنتين! فحينما اجتاحت الدولة العبرية لبنان في 1982 لم تجد أمامها إلا اللبنانيين والفلسطينيين. بعد ذاك انحصرت المواجهة في لبنان عام 2006 وفي قطاع غزة عام 2008. رابعاً، لم يعد هناك صراع عربي- إسرائيلي، والشعور العربي الطاغي في هذا المجال يقوم على الضجر واللا جدوى. وأكثر من هذا، يتراءى أن هذا الصراع الذي طال كثيراً جداً أصبح لا تاريخياً بالكامل. وقد بات من المتفق عليه لدى قطاعات عربية متزايدة الاتساع أن الأنظمة العسكرية العربية، خصوصاً منها النظام السوري، إنما عملت على تضخيم النزاع المذكور من أجل أن تطيل بقاءها في السلطة وتمضي في قمع شعوبها باسم ضرورة المواجهة مع إسرائيل. وبالطبع فإن حكم «ليكود» مستفيد أشد الفائدة من هذه النتائج التي وصل إليها الوضع العربي، ومن تعذر الضغط عليه في سبيل السلام. والحال أن أبرز وجوه الوضع الموصوف أعلاه هو المأزق الراهن للفلسطينيين. فهم لا يستطيعون المضي إلى ما لا نهاية في تفاوض لأجل التفاوض، من دون النجاح في انتزاع وقف الاستيطان. لكنهم يعرفون أيضاً أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا من اتفاق أوسلو للسلام، إذ لا يوجد خارجه أي شيء. ذاك أن زمن الانتفاضات قد ولى، خصوصاً أن الضفة الغربية وغزة تخضعان اليوم لسلطتين متنافستين، إن لم نقل متعاديتين. هل ثمة فرصة لقلب هذا المسار البائس؟ يغامر المرء بالقول إن الخطوة الشجاعة الأقدر على تغيير المعادلات تتعلق بـ«حق العودة». فالتوكيد الفلسطيني على هذا الحق، خصوصاً فيما تتحلل منطقة الشرق الأوسط إلى أديان وطوائف وإثنيات متعادية، لن يفعل سوى تكتيل الإسرائيليين وراء نتنياهو وفي مواجهة السلام. فالإسرائيلي المتوسط سيشعر بأن السلام سيحوله إلى أقلية في منطقة ليست معروفة بالتسامح مع الأقليات، وليس فيها نموذج واحد ناجح في تعايش الجماعات المختلفة. واستطراداً، إذا كانت مطالبة نتنياهو بالاعتراف بـ«يهودية الدولة» مطالبة كريهة ومناهضة لكل ميل تقدمي إلى الفصل بين الدول والأديان، فسيكون صعباً إضعاف هذه المطالبة في ظل التديين المتعاظم للحياة السياسية في العالم الإسلامي. في هذا المعنى فإن أكثر ما يقوّي قضية الفلسطينيين اتباع سياسات ومواقف رحبة في علمانيتها وفي نبذها التديين والعنصرية واللاسامية على أنواعها. وهذا ما يساهم في تحريك السياسة بين الإسرائيليين، وفي تفعيل المعارضة لنتنياهو. واللافت هنا أن استقصاءات الرأي العام لا تزال تُجمع على أن أكثرية الإسرائيليين لا يزالون يؤيدون إنشاء دولة فلسطينية، إلا أن هذا التأييد لا يزال يفتقر إلى الأجسام السياسية والتنظيمية القوية التي تعبر عنه. كذلك يمكن الرهان، في هذه الحال، على توسيع الأدوار التدخلية التي لن تكون في مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي. يصح هذا في دور أوروبا الضاغط، لاسيما من خلال مقاطعة السلع التي تنتجها المستوطنات اليهودية فوق أراضي الفلسطينيين، ودور الولايات المتحدة الذي سيزيده قوّةً ومصداقية اتخاذ واشنطن مواقف أكثر صلابة حيال إيران ومشروعها النووي. ذاك أن كل ضغط جدي على طهران يقوّي يد واشنطن في الضغط على تل أبيب. وبطبيعة الحال يبقى حل الإشكال العالق بين الضفة الغربية وغزة، على أساس برنامج لا يمت بصلة إلى حركة «حماس» وإيديولوجيتها وسلوكها، شرطاً شارطاً لقلب الطاولة.