الحرب الافتراضية في أوكرانيا
يسود اعتقاد على نطاق واسع لدى المراقبين الدوليين للأزمة الأوكرانية أن فلادمير بوتين سيواصل إرسال مزيد من قواته إلى المناطق الشرقية من أوكرانيا، مصحوبة بقوات خاصة تابعة للاستخبارات العسكرية، وسيستمر في زرع بذور الفوضى والاضطراب هناك، ما سيشجع الانفصاليين الموالين لروسيا على إخضاع المنشآت الحكومية والبلدية وتكريس سياسة الأمر الواقع تمهيداً للاستقلال. وبموازاة ذلك، تشتغل آلة الدعاية الروسية دون هوادة لدعم الفكرة القائلة إن ما تشهده المدن والبلدات الشرقية لأوكرانيا هو انتفاضة شعبية ينظمها الناطقون باللغة الروسية المتخوفون من الحكومة الجديدة في كييف ومن ميولها اليمينية، وهم يريدون بسبب ذلك الانضمام إلى روسيا الأم على غرار القرم، وأن المسلحين الذين يستولون على منشآت حيوية فقط يحمون مواطنيهم من اعتداءات محتملة للقوات الأوكرانية وميلشيات أخرى تابعة للمنظمات المتطرفة، وكل ذلك، تضيف الدعاية الروسية، بتواطؤ غربي واضح، لا سميا الولايات المتحدة التي بعثت بنائب الرئيس، جون يابدن، لهذا الغرض. وبحسب هذا السيناريو دائماً الذي يتكهن بما سيقوم به بوتين وردة فعل الغرب، سيهب الكرملين لحماية الناطقين بالروسية ويدفع بقواته إلى داخل الحدود للدفاع عن سكان ما كان يطلق عليه القياصرة «روسيا الجديد»، خاصة أن ما لا يقل عن 40 ألف من القوات الروسية تنتظر في حالة تأهب بالقرب من الحدود.
ومباشرة بعد الانتهاء من أوكرانيا، ستواصل روسيا زحفها على المناطق المجاورة ليأتي الدور على دول البلطيق، وجورجيا، وربما أيضاً أرمينيا وأذربيجان، لتتحول هذه البلدان إلى جزء من مشروع بوتين الموسع للاتحاد الأوراسي الذي يسعى حثيثاً لإقامته. وبالطبع، يضيف السيناريو الذي يرسمه البعض، أن بوتين سيقوم بذلك بسرعة وفاعلية فائقتين، فيما ينتظر أوباما والكونجرس الأميركي ما سيؤول إليه الوضع دون إنجاز كبير، ويقتصر «الناتو» على بولندا التي لن تكفي وحدها لمواجهة روسيا. وعلى غرار المرات السابقة، سيلجأ الغرب لتشديد العقوبات، ويرسل البنتاجون المزيد من القوات إلى أوروبا الشرقية للقيام بمناورات والإشراف على تدريب الجيوش المحلية. لكن هل هذا السيناريو حقيقي، أم أنه يشطح بعيداً في الخيال؟
الواقع أنه لا شيء مما ذُكر آنفاً يمكن قراءته في التقارير القادمة من المدن الشرقية لأوكرانيا التي يبدو أنها تواصل عملها كالمعتاد، دون مشاكل كبيرة، فيما تختلط القوات الروسية الخاصة مع القوات المحلية التي استولت على المباني الرسمية. ولحد الآن كان التوتر الوحيد الحقيقي الذي نتج عنه اندلاع معارك وسقوط قتلى هو ما وقع في مدينة سلوفيانسك التي يسيطر عليها مسلحون موالون لروسيا. ففي إحدى نقاط التفتيش التي يحرسها هؤلاء المسلحون، اندلعت معركة ليلة السبت الماضي مع ركاب سيارتين، لتنتهي المواجهة بسقوط قتيلين، وفر أحد الركاب الذي يُعتقد، وفقاً لشهود عيان، أنه أحد زعماء حركة «القطاع الغربي» الأوكرانية ذات التوجه اليميني المتطرف. هذا، ولم يُسمح للصحفيين باستجواب الناجين الذين نقلوا إلى المستشفى، فيما دعا الزعيم المحلي الموالي لروسيا إلى تدخل بوتين بإرسال قواته إلى المدينة للدفاع عنها ضد الفاشية بعد حادثة ليلة السبت. ولم يتأخر الرد الروسي الذي اكتفى بإبداء غضبه الشديد للحادث الذي استهدف نقطة تفتيش تابعة للمليشيات الموالية لروسيا. وفي الصحافة الغربية، كان المزاج أكثر اتزاناً والنظرة أقل هيجاناً مما تنقله الصحافة الروسية أو تتناقله بعض الدوائر. فقد جاء في صحيفة «لوموند» الفرنسية أن استطلاعاً للرأي موثوق به يشير إلى أن أكثر من 69 في المئة من السكان الناطقين بالروسية في المناطق الجنوبية والشرقية لأوكرانيا، يعارضون الانضمام لروسيا، مقابل نحو 15 في المئة يريدون ذلك. لكن من جهة أخرى، فإن 74 في المئة منهم عبروا عن غضبهم إزاء انقلاب ساحة «الميدان» في كييف الذي أطاح بالحكومة. وهم يعتبرون السلطة الحالية غير شرعية، وتكن تجاههم مشاعر غير ودية. ويبدو أن هذه الأرقام تنسجم مع تقارير أخرى من المدن الناطقة بالروسية، التي يخشى سكانها أن يتركوا في الوسط، لا هم مع روسيا ولا هم جزء من أوكرانيا. والأوضح مما ذكرته «لوموند» تقرير آخر في صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية أيضاً، قال فيه مراسلها في دونيتسك، إن الحرب التي يتحدث عنها البعض في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي ليست سوى معركة «مزيفة»، فرغم سقوط بعض الضحايا بسبب المناوشات، تظل الأوضاع إجمالاً عادية وبعيدة عن مظاهر الحرب، حيث تعمل المؤسسات في كل المناطق بصورة عادية ولا يبدو أن أحداً من السكان المحليين اهتم كثيراً لاستيلاء المسلحين الموالين لروسيا على البنايات الحكومية. ويضيف مراسل «لوفيجارو» أن السلطات في كييف ارتكبت الخطأ تلو الآخر، وهو ما استفادت منه الميلشيات الموالية لروسيا التي لعبت دور الضحية. وفي جميع الأحوال لا يبدو أن الوقت مناسب لكلا الطرفين، الروسي والغربي، كي تتحول الحرب الافتراضية التي تجري حتى هذه اللحظة في وسائل الإعلام، إلى حرب حقيقية في ساحات المعارك، وهو أمر يتعين على أوباما وبوتين إدراكه للحيلولة دون تفاقم الأمور وانزلاقها إلى الهاوية.
ويليام فاف
كاتب ومحلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»