بدأت منذ فترة سلسلة مقالات عنوانها «تحولات الشخصية المصرية»، وذلك لكي أقوم كباحث في العلم الاجتماعي بتشريح «الزمان الفوضوي» الذي قلت من قبل إنه جاء بعد الزمان الثوري الذي دشنته ثورة 25 يناير وموجتها الثانية في 30 يونيو. وقد ذهبت إلى أن فهم التغيرات العميقة التي لحقت بالإنسان والمجتمع في مصر يمر بالضرورة عبر دراسة وتحليل تحولات الشخصية المصرية والتي رأيت أنها انتقلت من سيادة «الشخصية الفهلوية» (هزيمة يونيو 1967) إلى «الشخصية الإيجابية» (نصر أكتوبر 1973) إلى «الشخصية الثورية» (ثورة 25 يناير وموجتها الثانية في 30 يونيو) وأخيراً إلى «الشخصية الفوضوية» بعد ما ساد العنف والإرهاب الذي قامت ومازالت تقوم به الجماعات الجهادية التكفيرية في سيناء والجماعات الشاردة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين التي أصابتهم 30 يونيو بصدمة ساحقة، لأنهم كانوا يتخيلون أن حكمهم سيستمر خمسمائة عام بعد أن يستعيدوا حلم الخلافة المفقود! غير أنه بعد أن أعددت نفسى للبحث فوجئت بمشكلة فنية في بوابة الأهرام منعت قرائي الذين أحرص بشدة على قراءة تعليقاتهم من نشرها على الشبكة، ولذلك كتبت مقالي السابق «اغتراب الكاتب» ووضعت بريدي الإلكتروني في ?نهاية? ?المقال? ?لكى? ?يستطيع? ?القراء? ?أن? ?يرسلوا? ?بتعليقاتهم? ?عن? ?طريقه،? ?غير? ?أن? ?هذا? ?البريد? ?لم? ?يظهر? ?في? ?المقال? ?للأسف.? ?وها أنا? ?أسجله? ?في? ?صلب? ?المقال،? ?وهو? ?دعوة? ?مفتوحة? ?لتلقي? ?التعليقات? ?النقدية. ولنبدأ حديثنا يمكن القول إنه لا يكفي أن نقول إن «الشخصية الفلهوية» التي عدد سماتها أستاذنا الدكتور «حامد عمار» سادت في النصف الثاني من الستينيات، وكانت من بين أسباب الهزيمة، لأنه ينبغي في الواقع تحليل السياق التاريخي بأبعاده السياسية والاجتماعية والنفسية التي سادت وتفاعلت مع نمط الشخصية المصرية، وأنتج ذلك شخصية قوية سلبية في الواقع. وهناك ضرورة لتحليل الحقبة التاريخية الفارقة في تاريخ مصر المعاصر والتي بدأت بالانقلاب الذي تم في 23 يوليو 1952 والذي تحول إلى ثورة بفضل تبنى الضباط الأحرار لمشروع العدالة الاجتماعية الذي صاغته في الخمسينيات القوى السياسية المصرية بكافة اتجاهاتها، وانتهت بالهزيمة في 5 يونيو 1967. ويمكن القول – على الصعيد السياسي إن الثورة استقرت -بعد حل جماعة «الإخوان المسلمين» وبعد إلغاء الأحزاب السياسية عام 1954- على أن التنظيم السياسي الواحد الذي اتخذ صيغاً متعددة بدأت بهيئة التحرير ثم الاتحاد القومى وأخيراً الاتحاد الاشتراكي العربي هو الصيغة المثلى للممارسة السياسية، حيث يجتمع «الكل في واحد» لو استخدمنا عبارة «توفيق الحكيم» وتختفي الفروق الأيديولوجية بين المصريين وراء «صيغة تحالف قوى الشعب العامل» ولا يتاح للمصريين أن يعبروا بحرية عن انتماءاتهم السياسية يمينية كانت أو يسارية. عبر الزمن تبين أن هذه الصيغة أدت إلى فراغ سياسي هائل في البلاد، وخصوصاً بعد أن حققت الثورة عديداً من إنجازات العدالة الاجتماعية التي وعدت بها. لقد صدرت قوانين عدة للإصلاح الزراعي حررت الفلاحين من عبودية شبه الإقطاع الذي كان سائداً، كما أعطى العمال عديداً من حقوقهم التي كانوا محرومين منها، وتم فك الحصار عن الطبقة الوسطى وأصبح عديد من أفرادها بحكم مجانية التعليم مهندسين ومديرين وموظفين في القطاع العام وأساتذة في الجامعات، كما أن البطالة اختفت تقريباً بين خريجي المدارس والجامعات بحكم سياسة التشغيل الكامل. وبالرغم من كل هذه المكاسب التي تحققت لفئات الشعب المختلفة إلا أن الجماهير أحست بفطرتها أنه لا يمكن في الواقع مقايضة العدالة الاجتماعية بالحرية السياسية. وقد أحس قادة النظام وعلى رأسهم «جمال عبد الناصر» أن هناك حاجة لخلق كيانات سياسية جديدة قادرة على تحريك الجماهير وتشجيعهم على الممارسة السياسية، فاختلقوا ما أطلق عليه «التنظيم الطليعي» والذي كان -ويا للغرابة- تنظيماً سرياً أنشئ بطريقة فوضوية في الواقع تفتقر إلى أي منطق تنظيمي، ولعله كان -أول تنظيم سرى تقيمه سلطة سياسية تحكم البلاد فعلا! غير أن هذا التنظيم الطليعي فشل فشلاً ذريعاً، ولذلك فكر «جمال عبد الناصر» -كما ورد في وثائق الاتحاد الاشتراكي- في تكليف بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة تأليف حزب معارض داخل الاتحاد الاشتراكي نفسه، وقد أجهضت هذه الفكرة العبثية لأنه سرعان ما تبين أنها في الواقع تفتقد إلى المصداقية. ونتيجة لهذا الفراغ السياسي العميق بدأت تظهر ما أطلق عليه «مراكز القوى»، والتي تصارعت للسيطرة على مجمل السلطة السياسية في البلاد. ولعل أبرز هذه المراكز كانت القوات المسلحة بقيادة المشير «عبد الحكيم عامر»، والذي قام بانقلاب صامت عام 1964 وتحدى «جمال عبد الناصر»، الذي حاول تقييد حركته من خلال مجلس للرئاسة، إلا أنه رفض رفضاً قاطعاً وأصر على أن يكون هو الفاعل السياسي الرئيسي. ومن جانب آخر بدأت تظهر بوادر بزوغ «طبقة جديدة من مديري القطاع العام الذين استطاعوا من خلال شبكات معقدة من الفساد تكوين ثروات طائلة، وشرعوا في تأسيس شبكات خاصة تنافس شركات القطاع العام، ومثلوا اجتماعياً ثورة مضادة» لأنهم ضاقوا بالقيود التي فرضها «جمال عبد الناصر» على حركة رؤوس الأموال. ومن هنا تحالف بعض أفرادها البارزين مع مراكز القوى الأخرى، مما أصاب البلاد بالشلل، وخصوصاً بعد أن فشلت خطة التنمية الخمسية الثانية لأسباب شتى وبدأت الجماهير تضج من سوء الأحوال الاقتصادية وندرة السلع الرئيسية. في هذا السياق المضطرب والمتعثر برزت سمات «الشخصية الفهلوية». وإذا كانت الشخصية الفهلوية قد ظهرت آثارها المدمرة في المجال السياسي والاقتصادي إلا أن خطورتها البالغة ظهرت في مجال قدرة القوات المسلحة المصرية وجاهزيتها للقتال مع العدو التقليدي لمصر وهو إسرائيل. «الشخصية الفهلوية» فرضت نفسها على المناخ المصري في النصف الثاني من الستينيات مما أدى إلى الهزيمة الساحقة في 5 يونيو 1967!