في الأسبوع الماضي وخلال جولته الآسيوية، ردَّ أوباما، فيما يشبه المدفعية الثقيلة، على منتقديه الذين يقولون إن سياسته الخارجية تتسم بالضعف، حيث تساءل في مؤتمر صحفي بمانيلا: «لماذا يبدو الجميع متحمساً لاستخدام القوة العسكرية بعد كل ما شهدناه طيلة عقد كامل من الحروب؟»، مضيفاً: «يبدو أيضاً أن العديد من الذين دافعوا عن الحرب في العراق لم يتعلموا دروس العقد الماضي، وهم لا يتوقفون عن تكرار المعزوفة نفسها». وأكد أوباما أن مهمته كقائد عام للقوات المسلحة هو «نشر القوة العسكرية فقط كخيار أخير». هذا التصريح يلخص بوضوح الفكرة الأساسية التي تنبني عليها عقيدة أوباما والتي ترى أنه سواء تعلق الأمر بسوريا، أم بأوكرانيا، أم بأفريقيا، أم بآسيا، يتعين دائماً تفادي أخطاء جورج بوش عندما أرسل الجنود إلى العراق. والحال أن تلك العقيدة قائمة على فرضية خاطئة، ذلك أن أي سياسة خارجية قوية للولايات المتحدة لا تعني بالضرورة تكرار المغامرات العسكرية التي انتهجها بعماء ساكن البيت الأبيض السابق، إذ كان بمقدور أوباما بعث رسائل مقنعة إلى روسيا والصين وإيران وسوريا وآخرين، دون الحاجة إلى وضع الجنود على الأرض. فلا جدال في أن أي رئيس ينتخب بعد عام 2008 سيكون محكوماً بالفوضى التي تسبب فيها بوش في العراق، علاوة على الحرب الطويلة في أفغانستان، والتي نفّرت الأميركيين من الحرب وحديثها، لذا من الطبيعي أن يراعي الرئيس الأميركي الرأي العام في الداخل. ومن المفهوم أيضاً في ظل هذا السياق العام النافر من المغامرات العسكرية في الخارج أن يركز أوباما على الدبلوماسية والتجارة، ويبتعد عن توريط البلاد في صراعات خارجية. وأيضاً ليس عيباً أن ينفق الرئيس وقتاً أطول في الاهتمام بالقضايا الداخلية في وقت تتصاعد فيه تفاوتات الدخول، وتتنامى الفوارق الهائلة. لكن، وللأسف، لا تصب تقلبات التاريخ دائماً في صالح الرؤساء، أو تخدم أجنداتهم، ولا يمكن للعراق أن يشكل التبرير الدائم لعدم التحرك والقيام بشيء أو التأخر كثيراً في قضايا السياسة الخارجية التي تؤثر على المصالح الحيوية للولايات المتحدة. إلا أنه مع ذلك تستمر عبارة «لا للعراق مرة أخرى» في صياغة رد الرئيس في السياسة الخارجية، من سوريا إلى أوكرانيا، لذا فقد انتقد في مانيلا الذين يعيبون عليه عدم مساعدة المعارضة السورية، قائلا: «نحن ندعم المعارضة»، متناسياً أنه هو نفسه عارض في 2012 الاقتراح الذي تقدمت به كل من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع ليون بانتيا، ورئيس هيئة الأركان المشتركة مارتين دامبسي، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية ديفيد بيترايوس، بتسليح عناصر من المعارضة المعتدلة. ولو أن أوباما دعم المعارضة السورية في تلك المرحلة لأقنع النظام السوري ومن ورائه موسكو بضرورة التوصل إلى اتفاق، لكن بدلا من ذلك اقتصرت المساعدة التي تحدث عنها أوباما على إرسال الوجبات الجاهزة المخصصة للجنود الأميركيين. ولا يبدو أن أوباما أدرك رسالة الضعف التي بعث بها إلى بشار الأسد وفلادمير بوتين من خلال موقفه المتردد، ومع ذلك فقد فاخر في مانيلا بالصفقة التي توصل إليها مع موسكو وتقضي بتسليم نظام الأسد ترسانته الكيماوية، حتى وإن جاء هذا بعد أن نكث وعده بضرب المنشآت العسكرية لنظام الأسد على خلفية استخدامه للغاز السام في قصف شعبه. لكن ماذا عن سقوط أكثر من 150 ألف سوري بالأسلحة التقليدية؟ واستمرار الأسد في الحفاظ على بعض أسلحته الكيماوية واستخدامه الأسبوع الماضي غاز الكلورين ضد المدنيين؟ وماذا أيضاً عن عزم الأسد الاحتفاظ بالسلطة في مناطق سورية، فيما تحول الباقي إلى ملاذ للجهاديين الذين يهددون مجمل منطقة الشرق الأوسط؟ والأمر لا يختلف كثيراً في أوكرانيا حيث فاخر أوباما بما قام به من «تعبئة للمجتمع الدولي ضد روسيا التي باتت أكثر عزلة من السابق»، متسائلا: «هل يعتقد الناس أنه بإرسال قواتنا إلى أوكرانيا سنوقف الجيش الروسي؟»، بالطبع لا أحد يعتقد ذلك، لكن على الأقل يمكن القيام بأكثر من إرسال الوجبات الجاهزة للجنود في أوكرانيا والتي تظهرنا بمظهر الحمقى أمام العالم. ولو توافرت الإرادة لتكشفت أمور كثيرة يمكن لواشنطن القيام بها للضغط على بوتين الذي لا يكترث لمسألة العزلة. فرغم الطلب الأميركي، لا تبدو أوروبا مستعدة لمزيد من العقوبات على روسيا لتداخل اقتصادها مع الاقتصاد الروسي، ما يثير مخاوف حلفاء «الناتو» في أوروبا الشرقية ودول البلطيق من أن أوباما، وقياساً إلى أدائه، قد لن يقف في وجه بوتين. والراهن أن روسيا تريد تعطيل انتخابات 25 مايو في أوكرانيا والسيطرة على المناطق الشرقية من خلال تحريك قواتها الخاصة ووكلائها، فيما يقف أوباما عاجزاً عن فرض العقوبات، رغم أن المحللين الأوروبيين يقولون إنه لو فعل لجر وراءه ألمانيا ودولا أخرى. هذا ناهيك عن عدم تطويره استراتيجية دولية للطاقة تقنع موسكو بأن لدى أوروبا بدائل أخرى عدا إمداداتها من الغاز والنفط. وأكثر من ذلك، لم يدرك أوباما أن الصين تراقب ما يقوم به، ناهيك عن الحلفاء الذين عليهم الحسم فيما إذا كانت واشنطن ستدعمهم في وجه التحركات العدائية لبكين، أم ستتركهم لحالهم. لكن عندما يسمعون خطاب أوباما حول العراق واستنجاده به كلما طُلب منه إبداء قدر أكبر من الحزم، تساورهم الشكوك والمخاوف. والمشكلة أن هذه المقاربة الأميركية ستقنع موسكو وبكين وطهران أنه يمكن تجاهل أوباما، الأمر الذي سيخلق المزيد من المتاعب لأميركا في العالم، كما سيعطي إشارة بأن أوباما ليس مهتماً بلعبة السياسة الخارجية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»