توني بلير: مقترحات للحوار ومحاربة «التطرف»
هناك قول مشهور في الولايات المتحدة وصيغته المتداولة أن «ما يحدث في لاس فيجاس يظل في فيجاس»، ولكن على ما يبدو فإن العكس تماماً هو الصحيح في الشرق الأوسط: «فما يحدث في المنطقة لا يظل في نطاقها».
وكانت هذه هي السمة أو الحقيقة الواضحة التي أعرب عنها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، في كلمة مهمة ألقاها حول الشرق الأوسط وأوضاعه الحالية، في مقر وكالة أنباء «بلومبيرج» في لندن، يوم الثالث والعشرين من شهر أبريل الماضي.
وعلى الرغم من ذلك، فقد أصر بلير على أنه، وعلى النقيض من كل الأزمات الأخرى في أنحاء العالم، فإن الأحداث في الشرق الأوسط «لا تزال تمثل أكبر تهديد ضد الأمن العالمي في القرن الحادي والعشرين». وسبب ذلك من وجهة نظر بلير هو أن النظرة المتطرفة والمسيسة للإسلام إنما تجعله من أيديولوجية تُشوّه وتُحرّف الرسالة الحقيقية للإسلام.
وقد أصبح التهديد النابع من الإسلام السياسي تهديداً متزايد الخطورة، وهي حقيقة تحتم على الغرب أن «يتأهب للتواصل والتعاون مع الشرق، ولاسيما روسيا والصين» باعتبارهما قوتين مهمتين ومعنيتين أيضاً بهذا التهديد، وليس الدخول في صراع معهما يضعف من شأنه الجبهة العالمية ضد الإرهاب.
ويشير بلير في كلمته المذكورة إلى «صراع واضح» بين هؤلاء الذين يرغبون في رعاية الحداثة والتعددية الثقافية في الشرق الأوسط، وبين هؤلاء الذين يؤمنون بأيديولوجية قائلة «إن هناك ديناً واحداً صحيحاً ورؤية واحدة صحيحة له.. وينبغي أن يقتصر تحديد طبيعة المجتمع والاقتصاد السياسي على أساس هذه الرؤية ووفقاً لها فقط».
ويعتبر بلير أن السماح بتصدير هذه الأيديولوجية يمثل أمراً خطيراً جداً على أمن الدول والمجتمعات الغربية، أو كما أوضح: «يبدو أننا نغفل التأثير العالمي الكبير والمستمر لهذه التعاليم».
وعلى الرغم من ذلك، فإن جوهر خطاب بلير لا ينطوي على أية أفكار جديدة، وإنما يعبر بأسلوب واضح تماماً عن موقفه ونظرته لطبيعة التهديد الذي يمثله الإسلاميون المتطرفون، ولماذا ينبغي أن نكون أكثر انفتاحاً ووضوحاً في معالجة التحديات التي تفرضها أيديولوجية الإسلام السياسي.
وفي هذا السياق، من المفيد أن نقارن تصريحات توني بلير بالخطاب الأكثر شهرة للرئيس الأميركي باراك أوباما، والذي ألقاه بُعيد انتخابه، في جامعة القاهرة بمصر في يوليو عام 2009.
وقد كان خطاب أوباما المذكور محاولة تاريخية لنزع فتيل التوتر بشأن بعض الاختلافات الكبرى بين الدول الغربية والمسلمة على مدار قرون، وإيجاد مقاربة جديدة لمعالجة التباينات الفكرية والعقدية والتخفيف من حدة الصورة النمطية المتبادلة وتأثيرها الطاغي على المواقف، إذ تضمن ذلك الخطاب إشارات مهمة إلى الأخطاء التاريخية التي ارتكبها الغرب وألمح إلى الحاجة إلى مزيد من التعاون بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة.
وبالفعل تناول أوباما قضية التطرف وحقيقة أن المتطرفين الإسلاميين شوهوا تعاليم القرآن، لكن تركيزه في ذلك الخطاب التاريخي إنما انصب بصورة أساسية على الإرهاب وموروث أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.
وقد كان أوباما أقل وضوحاً من بلير بشأن المدى الذي بلغه انتشار أيديولوجية المتطرفين الإسلاميين خارج حدود الشرق الأوسط، وفي بيان أن هذا التهديد أصبح أكبر بكثير من الأعمال الإرهابية والتفجيرات الانتحارية كتلك التي شهدتها واشنطن ونيويورك ولندن ومدريد.
وكرّس أوباما كذلك جزءاً كبيراً من ذلك الخطاب تناول فيه الصراع العربي الإسرائيلي، والتحدي الإيراني، وحقوق المرأة، والتنمية الاقتصادية.. وللإنصاف فقد كان أوباما في عام 2009 أكثر تفاؤلا بشأن الشرق الأوسط من بلير وهو يتحدث عن المنطقة في عام 2014.
وبالطبع، فإن السبب هو القائمة الطويلة من الأحداث الكئيبة التي وقعت في المنطقة منذ اندلاع اضطرابات ما عرف باسم «الربيع العربي» بداية من مطلع عام 2011، إذ لا تزال الدول التي مستها تلك الاضطرابات، وهي مصر وليبيا وسوريا واليمن، في حالة من الشلل التام، مع استمرار دوامة العنف اليومي فيها، كما فشلت في هذه الأثناء مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية التي دامت تسعة أشهر تحت رعاية أميركية. وعلى الرغم من وجود أمل في أن تتوصل إيران إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي مع القوى الغربية، إلا أنه ما من ضمانة تؤكد أن ذلك سيحدث فعلا.
وفي هذه الأثناء، ثمة ميزة في دعوة بلير إلى مزيد من التعاون مع روسيا والصين، اللتين تواجهان أيضاً تحديات أمنية من المتطرفين الإسلاميين، ولكن استناداً إلى الوضع الحالي الذي تشهده العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة وروسيا من جهة ثانية، بشأن الأزمة الناشئة في أوكرانيا، فإن التعاون بين الطرفين بشأن قضايا أخرى يبدو مستبعداً.
وفي الحقيقة، تعرب كل من روسيا والصين في الوقت الراهن عن خيبة أمل كبيرة وغضب من سياسات إدارة أوباما الحازمة بصورة كبيرة في أوروبا وآسيا.
وعلى الرغم من ذلك، فإن مراجعة بلير بشأن الشرق الأوسط تبقى إسهاماً مهماً في فهم مشكلة التطرف الأيديولوجي بصورة أفضل، والتحدي الذي تمثله هذه الظاهرة للمنطقة وللعالم بأسره، خصوصاً في باكستان وأجزاء من أفريقيا.
وإلى ذلك، يقدم بلير اقتراحات منطقية لتعزيز الحوار بين الأديان، لكن لا يزال مدى استعداد الولايات المتحدة والدول الأخرى لرفع قضية التطرف الإسلامي إلى صدارة الأجندة العالمية، موضع شك في ضوء تبعات الحروب الداخلية الجارية في العراق وأفغانستان والانهماك الحالي في التوترات الجديدة في أوروبا.