أدى ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم وتهديد أوكرانيا أضراراً ربما لم يكن يتوقعها تتمثل في إرباك الولايات المتحدة والانقسام الواضح في أوروبا، وخصوصاً في ألمانيا، وفي حلف شمال الأطلسي، وهو ما يشي بخطر حقيقي لاندلاع حرب. وأجرى وزير الخارجية الأميركي جون كيري حواراً صحفياً لصحيفة «وول ستريت جورنال» اتسم بقسوة استثنائية في تعامله مع الرئيس بوتين وروسيا، إذ صرح بأن الإدارة الأميركية «تعي بشكل كامل» أن هذه المواجهة مع روسيا يمكن أن تفضي إلى حرب نووية. ونُقل عن كيري قوله ـ وهو ما لم يتم تأكيده ـ في مطبوعة أخرى تبدو تابعة لـ«المحافظين الجدد» هي «ديلي بيست» أنه وصف في جلسة خاصة الروس بأنهم «أوغاد» ووزير الخارجية الروسي بأنه «كاذب». وشنّ كيري هجوماً غاضباً على قناة التليفزيون الروسية الدولية «روسيا اليوم»، بسبب إعلانها أنه كان قد هدد بشن حرب من قبل قوات حلف «الناتو» لو أن روسيا وضعت إصبعاً على «شبر واحد» من أراضي «الحلف»، كما استخدم الرئيس أوباما نفسه تصريحات قاسية بشأن خصومه الروس، لكن لا تقارن بما قاله وزير خارجيته. وفي الوقت نفسه، ثمة صمت من «البنتاجون» ومن وزير الدفاع «تشاك هاجل» والقادة البارزين، من بينهم الجنرال مارتين ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة. وربما يُفسر ذلك على أنه حذر من جانب رجال الجيش الذين سيتحملون ثمن الحرب التي يلوح بها المسؤولون المدنيون كما لو أن تصريحاتهم فقط هي الأسلحة. وقد كان ذلك حقيقياً العام الماضي عندما رسم الرئيس أوباما خطوطاً حمراء لما يحدث في سوريا لنيل استحسان المدنيين في الإدارة الذين تحمسهم معنويات الحرب أو رضا الذات عن التدخل لإنقاذ الضحايا الأجانب للحروب الأهلية، وبدا أيضاً أن رجال الجيش كانوا في حالة توجس. وفي محاكاة لشراسة كيري، اتهم أيضاً نائب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي والسفير السابق لدى روسيا «ألكساند فيرشبو»، وهو مدني أيضاً، الرئيس بوتين بإجبار «الناتو» على معاملة الروس على أنهم «أعداء» ـ وهو الوصف نفسه الذي تم استخدامه بالفعل في واشنطن. ولم تجد واشنطن سوى قدر ضئيل مما تشعر به من غضب واهتياج شديد في أوروبا، وهو ما أثار خشية ـ وفي بعض الأحيان ـ غضب المسؤولين والمعلقين الأميركيين، الذين عزو ذلك إلى ضعف الأوروبيين مادياً وأخلاقياً. ومن بين كافة الدول الأوروبية، لا تمتلك سوى بريطانيا وفرنسا قوات ـ بما في ذلك قدرات نووية ـ قادرة على التحرك بشكل مستقل في كافة أبعاد الحرب. وتقدم الدول الأعضاء الأخرى في حلف «الناتو» مهام عسكرية إضافية وأساسية للجيش الأميركي وقواته البحرية والجوية، ولا تنفق سوى النذر اليسير على دفاعها عن نفسها لأنها من ناحية «لا تحبذ الحروب»، وخصوصاً تلك التدخلات الأميركية في أجزاء مختلفة من العالم، ومن ناحية أخرى تعول على غيرها في الدفاع عن نفسها. ويندد المنتقدون الأوروبيون لهذا الموقف، مثل «كليمنز فيرجين»، رئيس تحرير «مجموعة دي فيلت» الألمانية، الدول الغربية التي تدافع عن سياسات فلاديمير بوتين أو تبررها، ويصفونها بأنها طامعة في العلاقات الاقتصادية مع روسيا، أو بأنها تتقاسم مع الرئيس بوتين العداء للقيم الغربية العلمانية الحديثة، والتراخي الأخلاقي، والافتقار إلى الانضباط والقيادة، وهجران الدين، أو أنها ببساطة معادية للولايات المتحدة الأميركية. ولكن هذه الاتهامات لا يمكن بحال أن تنطبق على شخصية مثل «هيلموت شميدت»، أقوى وأهم مستشار ألماني أثناء سنوات الحرب الباردة، الذي قال قبل كل شيء «إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو جميعاً مسؤولون عن اندلاع هذا الصراع بسبب سذاجتهم وأيديولوجيتهم الجيوسياسية». ومثل هذا المقال، حذر «جورج كينان» و«هنري كسنجر» في الماضي، وكثيرون آخرون في أوروبا الغربية والولايات المتحدة من التوسع المتعمد والمذل في عضوية حلف «الناتو» باتجاه الحدود السابقة للاتحاد السوفييتي باعتباره دعوة راسخة ومتواصلة لرد فعل عنيف من قبل روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، وقد شاهدنا ذلك الآن في شبه جزيرة القرم وفي أوكرانيا. ولا شك في أن الوضع أصبح خطيراً جداً لأن أوكرانيا نفسها الآن توجد فيها حكومة مؤقتة ضعيفة وذات أهداف وتوقعات متخبطة بشكل كبير، كما أن قوات شرطتها عاجزة وفاسدة وجيشها ضعيف عدة وعتاداً، وقواته مشكوك في كفاءتها، ومنقسمة بين نفس القوى التي تُقسم المجتمع، ومن ثم فهي عاجزة عن بسط النظام. ومن غير المقنع أن الأحداث الراهنة ستسفر عن إعادة توحيد أوكرانيا في إطار الفلك الغربي، فالدولة منقسمة بالفعل، والواقع يفرض: «ترك كل منطقة في أوكرانيا تصوت على مصيرها، وإذا كان الناطقون بالروسية يريدون استفتاء، فلندعهم يجرونه .. مثل أي استفتاء حر ويجري تحت إشراف المجتمع الدولي». ولكن هل ستتعاون روسيا؟ ولم لا إذا كان المعروض عليها هو وسيلة للحصول على ما تريد من دون القتال من أجله، وهل سيقبل الشعب النتيجة؟ بالطبع، فليس كل من يتحدث الروسية يريد أن يكون روسياً، ولكن ألن يُقسم ذلك الدولة إلى الأبد؟ فلينتظر الجميع النتيجة. وإذا كان البعض يخشى اندلاع حرب أهلية على الطريقة اليوغوسلافية بعد الاستفتاء، فإذا حدث ذلك ربما سيكون المجتمع الدولي عندئذ قادرا على التدخل مباشرة ووقفها، وستكون لموسكو مصلحة في وقفها، بسبب ما قد يسفر عنها من تداعيات داخل روسيا نفسها. والحروب لا يمكن السيطرة عليها، وربما أن روسيا توشك على اكتشاف ذلك. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»