«دون التخلي عن الحب» عنوان مقالة شقيقي الروائي محمود البياتي المنشورة الأسبوع الماضي في «القدس» اللندنية، وفيها يتحدث عن موت مفكرين وأدباء وفنانين بمرض السرطان، بينهم الروائي جابرييل غارسيا ماركيز، والشاعر أنسي الحاج، والمفكر إدوارد سعيد، والفنان رافع الناصري «وغيرهم كثيرون أمسوا في عداد القتلى»، حسب شقيقي الذي يستشهد بالمتنبي «إذا ما تأمّلتَ الزمانَ وصرفه، تيَقّنتَ أن الموت نوعٌ من القتلِ». ويذكر شقيقي إصابته المفاجئة بالمرض الفتّاك الذي حولّه سريعاً إلى «جسد واهن مسجون في حيز ضيق وينتظر. ها هي في المرآة ابتسامتي كأنها تجعيدة في قماش أصفر رث. كتفان محدبتان، عظم ترقوة بارز، عضلات ضامرة، توازن مختل، قلب مشوش». مع ذلك يقول إنه لو خُيّر بالرجوع إلى سن العشرين فلن يوافق. «لا جدوى من اجتياز ذات الدرب الوعرة مرتين». ولعلي «خُلقتُ ألوفاً لو رجعتُ إلى الصبا. لفارقتُ شيبي موجعَ القلبِ باكيا». وفي مواجهة الموت لا يزال، كما في خضم الحياة، «عاشقاً للقراءة وموسيقى باخ وغناء فيروز». وكل ما يتمناه «المغادرة بسلام حين أكون غاطساً في نوم مريح وعميق. لا أريد معارك أو مساومات خاسرة مع أمراض أقوى مني». وكما في رواية ماركيز «قصة موت معلن»، كان موت أبرز رجال الأسرة معلنا للجميع، وبينهم ابن العم العقيد وصفي طاهر، الذي أُعلن موته مرات عدة منذ تطوع للقتال في فلسطين عام 1948، وعندما أسهم في قيادة «ثورة 14 تموز» عام 1958، وقُتِلَ عندما قاوم انقلاب 1963 داخل مبنى وزارة الدفاع، وكانت آخر كلمات قالها لي «إحنا سَوّينا الثورة، واحنا نموت ويّاها». وبين أبناء العمومة من لم يُعلن موته حتى الآن صفاء الحافظ، المستشار القانوني لوزارة العدل، وواضع «قانون الرعاية الاجتماعية» المعمول به حتى اليوم. عدد مرّات موته غير المعلن بعدد شهاداته في القانون، والاقتصاد، والقانون الدولي من جامعة السوربون. اعتقل عندما عاد ورشّحَ نفسه للانتخابات في العهد الملكي، وأسقطت عنه الجنسية، إثر هروبه إلى الخارج، وعاد بعد ثورة 1958 للتدريس في كلية الحقوق بجامعة بغداد، واختفى خمس سنوات عقب انقلاب 1963، وظهر للعلن عام 1968، وساهم في مصالحات اليسار العراقي المستميتة لتجنب الموت المعلن للبلد. وفي 4 فبراير 1980 اختطفته قوات الأمن من الشارع، أثناء توصيله زوجته إلى مقر عملها وسط بغداد. «ولم يعد بعدها، وإلى حد الآن لا يُعرف مصيره؛ هل أعدم أم توفى، وكيف، ومتى توفى، ولا يعرف له قبر». ذكرت ذلك زوجته في الاحتفال بمولده التسعيني العام الماضي في بغداد. ومن ليس موته معلناً في بلدنا الحبيب المعلن موته منذ مائة عام، وبينهم ابن عم الوالد زكي خيري، الذي كُسرت عظام صدره في أول مظاهرة لسكان بغداد في فبراير 1928 ضد وعد بلفور، واحتجاجاً على زيارة الصهيوني ألفرد موند. جمعت المظاهرة فتياناً أنشأوا الحركات والأحزاب السياسية العراقية، وقادوها عبر القرن العشرين، وبينهم حسين جميل، وعزيز شريف، وعبد الفتاح إبراهيم. وعلى امتداد القرن سابقَ «خيري» الموت المعلن في سجون العراق، حيث هرب من أحدها عبر أطول خندق حفره السجناء السياسيون في التاريخ، وغامر بحياته، وهو في العقد الثامن لحضور «المؤتمر العام للحزب الشيوعي» في ثمانينيات القرن الماضي، في كردستان العراق، لإقناع الشيوعيين الذين رفعوا السلاح ضد الحكومة بأن طابع الحرب قد تغير، بعد دخول القوات الإيرانية البلد، ولم يعد صحيحاً حمل السلاح ضد «الجيش العراقي الذي يدافع عن الوطن». وأُقصي خيري من عضوية «المكتب السياسي» الذي يعتبر أعلى سلطة في الحزب. وكما يحدث دائماً تحوط نساء الأسرة رجالها المعلن موتهم بالدعاء وتلاوة الذكر الحكيم، وحتى بالغناء والرقص. لقطات الفيديو التي تناقلتها الأسرة عبر الإنترنت الأسبوع الماضي، تصور الاحتفال بمنزل شقيقي الجديد في ضواحي لندن، الذي أثثته شقيقاته الخمس، وشاركتْهُنَّ مُطّلقته وأم طفليه الرسامة ياسمين دزَئي. وشقيقي محظوظ مع النساء بشكل مدهش ومفجع، له وللنساء. والنسبة طردية بين المدهش والمفجع، فأكثر من عرف من المدهشات، أكثر من فجعنه بالحب وفُجعن به. وذلك عنوان مقالته «دون التخلي عن الحب»، وفيه «الحب المرض الوحيد، الذي يخشى المصاب به أن يشفى منه» حسب أستاذه الأثير أرنست همنجواي. والموت المُعلن لشقيقي الصغير حياة سرية عارمة. اكتشفتُ ذلك صدفة، عندما اتصلت فتاة إيرانية سويدية تسألني عنه. سألتها: «أنت تتحدثين من هاتف منزل محمود»؟ أجابت: «نعم، لكنه غير موجود»! ومحمود من الجيل الموجود غير الموجود في كثير مما مرّ على العراق. كامران قره داغي، رئيس موظفي مكتب رئيس الجمهورية جلال الطالباني كتب أخيراً علي صفحة «فيسبوك» بأنه ومحمود البياتي كانا آخر محررين في صحيفة «التآخي» التي يصدرها «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ليلة إعلان «الحكم الذاتي في كردستان» في 12 مارس 1974. كان القادة الأكراد قد غادروا بغداد تباعاً إلى كردستان، وطُلب من قره داغي والبياتي نشر إعلان عن احتجاب الصحيفة لأسباب فنية. وكان الاثنان يداريان بالنكات توّقع اعتقالهما من قبل المخابرات. اقترح محمود أن يحتل صدر الصفحة الأولى عنوان فيلم مصري مشهور آنذاك «خلّي بالك من زوزو». وتفاءلوا بـ«زوزو» تجدوه. فضباط المخابرات الذين جاؤوا إلى الصحيفة كانوا مهذبين، وطلبوا بأدب رفع إعلان الاحتجاب. وادّعى قره داغي والبياتي أنهما غير مخولين بذلك، وتركوا الأمر للضباط الذين ادّعوا أنهم غير مخولين أيضاً. وانتهت الليلة بالتعادل للطرفين، لكنها بالنسبة لقره داغي كانت ليلة التحاقه بالثورة المسلحة في كردستان، ويذكر: «لم يمض سوى شهرين حتى غادر العراق الصديق العزيز محمود البياتي حزيناً غداة إعدام أعز أصدقائه، الشهيد جواد هماوندي، وخطيبته الشهيدة ليلى قاسم. لم يعد محمود إلى العراق حتى اليوم». وكما يحدث دائماً ندهش عندما نجد أصغر أشقائنا أكبرنا موهبة وحيلة. ألَّفَ شقيقي نحو عشرة كتب في القصة والرواية والشعر، وتقول الروائية عالية ممدوح عن أسلوبه: «يشق جلد ثمرة اللجوء والنفي والقهر الداخلي بكلمات من حرير حين يهاتف بلده». ومن أظرف مهاتفاته قصة «بغداد طهران ستوكهولم» وفيها يتفق هارب من العراق اسمه قيس بالتحدث بالشفرة مع أهله، بأن يذكر أنه «زهير»، وعندما يقول إنه في بيته الجديد يعني أنه وصل «ستوكهولم»، أمّا «البيت العتيق» فيعني طهران التي غادرها. ويشقُ جلدَ الضحك كلامُ قيس عبر الهاتف مع أمه؛ ما إن يقول لها إنه «زهير» حتى تهتف: «أدري ابني قيس.. افتهمت. راح يُغمى عليّ من الفرح»!