الجامعات وترشيد المجتمع
منذ انتصار العلم في عصر النهضة تصدرت الجامعات قضية البحث العلمي، وخرجت معظم الاكتشافات العلمية الحديثة من أروقة الجامعات منذ جامعات «باليرمو» و«بادوا» في إيطاليا تحت أثر ترجمات العلوم الإسلامية من العربية إلى اللاتينية خاصة في العلوم الطبيعية وعلوم الحياة إلى الجامعات الحديثة التي منها خرجت النظرية النسبية لأينشتاين ونظرية الكوانتوم للود دي بروي...الخ. ونشأت داخل الجامعات مراكز الأبحاث المتخصصة والمعامل المتقدمة وأجريت فيها التجارب العلمية العديدة. ولذلك ارتبطت الجامعات بتطور الغرب وبنهضته العلمية الحديثة. ونشأت فيها عمادات بأكملها للدراسات العليا والبحوث العلمية. وصدرت من الجامعات وأقسامها ومعاهدها ومراكزها المتخصصة المجلات العلمية، وتبادلت خبراتها فيما بينها. وفي اليابان قامت مراكز الأبحاث داخل الشركات الصناعية الكبرى بتدعيم الصناعات بما تحتاجه من أبحاث واختراعات، بل أقامت كل شركة مراكز أبحاثها حتى تلغي المسافة بين النظرية والتطبيق، بين الجامعة والمصنع، بين العلم والحياة.
لم تقم الجامعات إذن على التلقين ونقل المعلومات. فالتقليد ليس منهجاً علمياً ولا طريقاً للمعرفة. ونقل المعلومات ليس علماً. العلم هو ما يستنبط من المعلومات وما يستنتج منها. وما يُخلق كمعلومات جديدة بناء على تجارب أو مشاهدات. والراوي ليس عالماً، وناقل العلم ليس بعالم بالضرورة، والحافظ ق لا يكون عالماً. لا تعمل الذاكرة عمل العقل. مهمة الذاكرة الحفظ والاختزان ومهمة العقل التفكير والإبداع. فلا الذاكرة تفكر، ولا العقل يحفظ.
ولا يكفي أن تبدع الجامعات الأوروبية وتنقل الجامعات الأخرى عنها، وإلا كانت حضارة واحدة هي المبدعة وباقي الحضارات هي المستهلكة. وقد كان لكل حضارة في التاريخ دورها المبدع، في الصين والهند وفارس ومصر القديمة وبلاد ما بين النهرين وفينيقيا واليونان والعالم الإسلامي قبل أن يصب ذلك كله في الحضارة الغربية الحديثة.
ولم يقتصر العلم على أن يكون بحوثاً ودراسات داخل مراكز الأبحاث أو مطبقاً في الصناعات بل تحول إلى أسلوب حياة وأداة لترشيد المجتمع. فتحول المجتمع العفوي إلى مجتمع علمي، وأصبحت الجامعات هي مراكز إصدار القرارات. فلا يصدر قرار اقتصادي أو سياسي إلا إذا قام على دراسة علمية رشيدة. وبالتالي أمكن توفير الجهد والوقت وتفادي النكوص والفشل والعود على بدء، والبداية باستمرار من الصفر. العلم إذن هو الوسيلة لتحويل المجتمع التقليدي وأنماطه الفكرية السائدة كالعفوية والمزاجية إلى مجتمع العلم والعقل، ومن مجتمع العلاقات الفردية والمواجهة الشخصية والأمزجة والانفعالات إلى مجتمع يسوده القانون ويحكمه الفكر ويسير طبقاً للمبادئ، ومن مجتمع العفوية والمصلحة الآنية إلى مجتمع الترشيد والتخطيط. ولذلك استطاع المجتمع العلمي الرشيد التنبؤ بوقوع الظواهر بعد معرفة قوانينها، وتوقع المشاكل والإعداد لها قبل وقوعها، واكتشاف حلولها قبل تفاقمها وتحولها إلى أزمات لا حل لها. لا يوجد «تابو» في العلم أو في المجتمع، في الفكر أو في النظم الاجتماعية. يضع العلم كل شيء موضع البحث بما في ذلك العادات والأعراف والتقاليد وكل مظاهر الموروث.
وسيظل الغرب يزهو باستمرار بأنه مجتمع العقل والعلم وبأنه وحده هو القادر على التنظيم «وعقلنة» العالم، وأنه هو وحده الذي اكتشف الإنسان الحر العاقل القادر طالما أن المجتمعات غير الأوروبية ما زالت قاصرة غير رشيدة لا تعتمد على العقل.
إن القصور الذاتي ليس قانوناً للتاريخ بل هو مجرد استمرار لفعل مضى وبدأ في التراخي والذبول. والمجتمعات التي تعيش بالقصور الذاتي سرعان ما تذبل وتموت. ومن ثم فلا بديل عن المبادرة الحرة وترشيد المجتمع حتى يمكن تدريجياً الاستغناء عن الخبرات الأجنبية وحتى يقوم بالترشيد الباحثون والمواطنون فهم أقدر على معرفة حاجات المجتمع وأذواق الناس. وكلما بقيت الجامعة في جانب تقصر مهمتها على محو الأمية الثقافية أو إخراج مدرسين أو موظفين أو إداريين وتترك ترشيد المجتمع للخبرة الأجنبية اشتدت غربة الناس عن عالمهم واتسعت الهوة بين ثقافتهم وبين عصرهم.
كما لا يقتصر دور الجامعات على البحث العلمي بل إنها بالإضافة إلى ذلك تتمتع بقدرة فائقة على النقد الذاتي. تقوم الجامعات إذن بدور طليعي في نشأة الأفكار الجديدة التي تنادي بالتجديد وتهدف إلى التغيير نحو الأفضل. والأمثلة على ذلك كثيرة. ففي الستينيات عندما بدأ الاستعمار عاتياً ممثلاً في حرب فيتنام نشأت الحركات المناهضة للحرب داخل الجامعات، وتكونت حركات السلام داعية لإيقاف الحرب، ومطالبة باستقلال الشعوب وبحقها في تقرير المصير. وقامت الجامعات، خاصة علماء الإنسانيات، بفضح المركب الصناعي العسكري الذي يثرى من وراء الحروب وتجارة السلاح وتكون الشعوب هي الضحية. وقام مفكرو الجامعات وأساتذتها بمحاكمة أميركا على ممارساتها في فيتنام مثل محاكمة سارتر وراسل، ومحاكمة إسرائيل على جرائمها في صبرا وشاتيلا.
ومن داخل الجامعات، بدأت حركات المطالبة بالحقوق المدنية للأقليات ضد التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة. كما تكونت في الجامعات لجان للدفاع عن حقوق المستهلكين ضد استغلال شركات الغذاء الكبرى التي قد يكون همها الكسب دون المحافظة على صحة الناس. فاستعملت كل الوسائل المصطنعة للإنتاج الكمي للغذاء من المواد المركبة، والتدخل الصناعي في نمو النبات والطيور والحيوان، وهو أحد الأسباب الرئيسية لانتشار السرطان في أكثر من ثلث المجتمع الأميركي. ومن داخل الجامعات أيضاً تكونت «الحركة الخضراء» للدفاع عن البيئة ضد التلوث بعد أن عجزت قوانين الحكومات عن الحد من مخاطر نفايات المصانع التي قد ترغب في مزيد من الكسب بصرف النظر عن صحة الناس. كما تكونت داخل الجامعات الأوروبية حركات السلام ضد انتشار الأسلحة الذرية والصواريخ النووية العابرة للقارات دفاعاً عن حق الشعوب في العيش في سلام. وقام علماء الطبيعة أنفسهم بالوقوف أمام مشاريع حرب الكواكب لما تجره على الإنسانية من خراب ودمار.
ولما بدأت حركات الرفض لمثـل المجتمع الغربي وقيم الطبقة المترفة فيه نشأت حركات «الهيبيز» داخل الجامعات في أوروبا وفي الولايات المتحدة. وظهر «الجينز» المهلهل الأرجل بلا خياطة أو صناعة، والعلم الأميركي في الخلف أو على الحذاء، وشاع النوم في الطرقات بدلاً من البيوت الفارهة، وظهرت عادة إطالة اللحى والشعور بدلاً من التزين والتجميل، ورفض الاستحمام والعطور باعتبارها قيماً للحياة الناعمة، وإيثاراً لحياة البؤس والشقاء، وعم الغناء في الطرقات بدلاً من المسارح. وظهرت «الخنافس» بدلاً من القطط السمان، فحياة الشعوب أصدق في النهاية.
وقد اكتمل ذلك كله في مظاهرات الشباب في مايو 1968 من داخل الحرم الجامعي تنادي بمثل جديدة، وقيم جديدة، وتعليم جديد، ومناهج جديدة. ونالت بعض ما أرادت في الاشتراك في الإدارة الجامعية، وتغيير مناهج التعليم من العلم المفروض إلى الحوار المفتوح، ومن المحاضرة العامة إلى المناقشة الحرة. وظهر مفكرون أساتذة مثل هربرت ماركيوز وطلاب مثل إنجلاديفيز يضعون فلسفة جديدة للشباب إشباعاً لرغباته المكبوتة وتأكيداً لذاته الضائعة، وتحقيقاً لغاياته ومثله التي تعبر عن حاجاته بدلاً من الحرمان والإحباط هدراً للطاقات وإجهاضاً للعقول. إن الجامعة هي المكان الطبيعي لممارسة الحرية والقيام بدور النقد الذاتي حتى لا تقع الأمة في الازدواجية بين حياتها الخاصة وحياتها العامة.