أزور اليابان هذه الأيام في رحلةٍ أكاديميةٍ تستمرّ عدّة أيام، وقد أخذتني الرحلة إلى عدة مدنٍ يابانية، بدءاً من «كوبي»، مروراً بكلٍ من «هيروشيما» و«كيوتو»، وانتهاءً بالعاصمة طوكيو. ولعلّ المدن اليابانية في غرب البلاد أكثر هدوءاً وجمالاً من شرقها. ف«كوبي»، على سبيل المثال، تقع بالقرب من مدينة «أوساكا» الصناعية، وتختلف عنها كل الاختلاف، فهي مدينة هادئة ذات طبيعة خلاّبة بين البحر والجبل، وإذا ما صعدت إلى جبلها «روكو»، فسيبهرك جمال المدينة، وكأنك تُطلّ من جبل لبنان على البحر الأبيض المتوسط. حتى أن جامعة المدينة تقع على سفح الجبل. أما «كيوتو»، فهي مدينة جميلة صغيرة مشهورة بالمعابد البوذية القديمة، وكذلك المطاعم المُطلّة على أنهارها الصغيرة الصافية. ولعلّ المناظر الجميلة للمياه المنسابة تُنسيك اختلاف طبيعة الطعام عمّا ألفناه في بلادنا العربية، حيث غالبية الطعام إما من اللحم النيء، أو الأسماك النيئة، التي يتلذذ اليابانيون بأكلها دون أن يتم طبخها. لاحظت في مدينة «هيروشيما» الجمال الفائق للمدينة، وسكنت في فندقٍ يُطلّ على ميدان السلام، وهو الميدان الذي لا زالت آثار القنبلة النووية التي سقطت عليه ماثلة للعيان، يزورها السُيّاح حتى من الولايات المتحدة. وتتّسم مياه المدينة بالعذوبة الشديدة، ولا أدري إن كان ذلك من وفرة المياه والبحيرات فيها، أم أنها آثار التأيُّن النووي. وكل من سألت من زملائي عن الأمن فيها إثر ذلك التلوث النووي ضحك في وجهي، وقال إن هذا لم يعد له وجود اليوم. وحين تلمس قدماك الأرض اليابانية، تدهش للحجم الهائل من البشر، والجموع التي تقطع الشوارع أو تركب القطارات. ومع أنهم يعملون كل يوم ساعات طويلة، ويقضون في المعدّل ساعتين ذهاباً وإياباً إلى أعمالهم، إلا أنهم مبتسمون على الدوام، يُعاملون الأجانب وبعضهم بعضاً بكثيرٍ من الاحترام والانحناء. ولا تلمس في اليابان وجود عدد كبير من الأجانب كما في دول الخليج العربية، وقيل لي إن هناك بعض العمّال المستقدمين من الصين وكوريا الجنوبية، ولكن بأعداد قليلة ولفترات زمنية محدودة. وهناك كثافة في استخدام اليد العاملة اليابانية، خاصةً في الفنادق والمطاعم والبنوك وغيرها، بشكلٍ أكبر بكثير مما هو الحال في بلادنا، أو في البلاد الأوروبية. ويبلغ عدد السكان في اليابان حوالي 127 مليوناً، ربعهم يعيش في مدينة طوكيو، أو بالقرب منها، وتصل أعداد الناس فيها إلى عشرين مليوناً أثناء النهار، ويتقلّص هذا العدد إلى 12 مليوناً أثناء الليل، حيث يعود الموظفون إلى دورهم في المحافظات القريبة من المدينة. ومع ذلك، فإنّ الطرق السريعة فيها غير مزدحمة بالسيارات، حيث يستعمل غالبية السكان القطارات. وفي بعض محطات القطارات في طوكيو، يُخيّل إليك أنك تعيش في مدينةٍ كاملة تحت الأرض، حيث تسير القطارات في أربعة أو خمسة طوابق تحت الأرض. وقد زرت بعضاً من الجامعات اليابانية وحاضرت في بعضها، واستقبلني بعض الزملاء اليابانيين بالكثير من الحفاوة التي أُدين لهم بها، وعاملوني معاملة الأخ الشقيق. كما حضرت الندوة السنوية لأساتذة العلوم السياسية اليابانيين، وقد أدهشني حسن المعاملة، وكذلك البُعد العميق والمِهنية العظيمة التي يتمتع بها هؤلاء الأساتذة وطلابهم في دراساتهم للعالم العربي. ويُسجّل في الجمعية حوالي سبعمائة عضو، حضر منهم للندوة هذا العام حوالي مائة وعشرين. ولا تقتصر دراسات الشرق الأوسط على جامعة بعينها، فالاهتمام باللغة العربية والإسلام والتاريخ العربي والعثماني والفارسي منتشر في عددٍ من الجامعات اليابانية، وتركّز كل جامعة منها على موضوعٍ معيّن. فهناك جامعات تركّز على تدريس الأديان المقارنة، ومنها الشريعة الإسلامية. وهناك جامعات تركّز على دراسة السياسات المقارنة أو التاريخ، وهكذا. وقد قابلت في هذه الندوة السنوية أساتذة وطلاباً يدرسون بلدان الوطن العربي من المغرب وليبيا، مروراً بالسودان ومصر، وانتهاءً ببلدان الخليج العربي واليمن. وبدا لي من نقاشي مع بعضهم تعاطفهم العظيم مع القضية الفلسطينية، ويتمتّع معظم الباحثين اليابانيين بحيادٍ عظيم تجاه الموضوع الذي يدرسونه، ولا يتعاملون معك كباحث عربي بشكلٍ من التعالي، كما هو الحال مع بعض الأساتذة الغربيين. وهناك عددٌ من الطلاب العرب والأجانب الذين يدرسون بالجامعات اليابانية. فعلى سبيل المثال، هناك ستمائة طالب وطالبة سعوديون يدرسون الهندسة والعلوم البحتة وطب الأسنان في الجامعات اليابانية، وكذلك حوالي ستين طالباً من الإمارات، ويمكن أن يزيد هذا الرقم في المستقبل نظراً للمستوى الجيّد لبعض الجامعات اليابانية، خاصةً الجامعات الحكومية. وعلى هؤلاء الطلاب أن يدرسوا اللغة اليابانية بشكلٍ جيّد، وأن ينجحوا في الامتحانات التي تعقدها تلك الجامعات للطلاب الراغبين في الدراسة فيها. ولعلّ أكبر عائق يواجه الزائر إلى اليابان هو اللغة. فغالبية الشعب لا تتكلم إلا اللغة اليابانية، وإلمامهم باللغة الإنجليزية ضعيف جداً، وحتى قوائم الطعام في المطاعم لا تُكتب إلا باللغة اليابانية، ولاشكّ أن ذلك يمثّل عقبةً أمام السياح الذين يريدون أن يتعرفوا بشكلٍ أكبر على هذا الشعب الرائع وثقافته المتميّزة. وقد وصل عدد السيّاح الأجانب في العام الماضي إلى عشرة ملايين سائح، وترغب الحكومة اليابانية في زيادة هذا العدد، وخاصةً أنها تخطط لعقد أولمبياد عام 2020، في طوكيو. وعليها إن رغبت في ذلك، تسهيل ونشر استخدام اللغة الإنجليزية في المطاعم والأماكن العامة مثلما هو الحال مثلاً في محطات القطارات، والمترو، التي يغلب عليها استخدام الإنجليزية والصينية إلى جانب اللغة اليابانية. واليوم، وأنا أغادر اليابان، أشعر برغبةٍ شديدة في العودة إليها وزيارة أصدقاء أعزّاء خاصةً من أساتذة الجامعات الذين يُشعرونك بكل صدق بأنك واحد منهم.