في إطار الحالة الراهنة التي تمر بها القضية الفلسطينية من المناسب أن نتوقف عند ذكرى إنشاء الكيان الصهيوني في أرض فلسطين في عام 1948 بالنظر إلى الدروس الأليمة التي تنطوي عليها هذه المحنة والتي لا يبدو دائماً أننا حريصون على استيعابها والاستفادة منها على رغم التدهور الذي أصاب القضية، وأول هذه الدروس أن ذلك الكيان ما كان لينشأ ويتمدد عسكرياً ليشمل أرض فلسطين برمتها بعد عدوان 1967، لولا بلورة مؤسسيه رؤية استراتيجية ثاقبة لم تمنع من تبني تكتيكات يبدو للوهلة الأولى أنها تنطوي على تنازلات ما عن الهدف النهائي للاستراتيجية، لكن هذه الاستراتيجية نفسها كانت صمام الأمان حتى لا تؤثر التكتيكات سلبياً على الهدف وإنما تكون خطوات على طريق تحقيقه. تبلورت الرؤية الاستراتيجية الصهيونية في مؤتمر بازل بسويسرا 1897 الذي تبنى هدف إنشاء دولة صهيونية على أرض فلسطين دون غيرها من الأماكن المقترحة لإنشاء الكيان الصهيوني حتى يكون هناك أساس روحي مزعوم يربط اليهود المهاجرين إلى فلسطين بأرضها. ومن ناحية أخرى أدركت الحركة الصهيونية منذ البداية ألا نجاح لها إلا بالارتباط بسند دولي قوي فبدأت ببريطانيا ومع بروز القوة الأميركية إبان الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها سارعت الحركة الصهيونية إلى نسج خيوطها المحكمة حول القرار الأميركي مستخدمة في هذا اللوبي الصهيوني الأميركي بل لقد تمكنت في اللحظات الحاسمة من اختراق دائرة صنع القرار السوفييتي، ومن هذه الشبكة الممتازة لعلاقات الحركة الصهيونية الدولية تمكنت هذه الحركة من الحصول على وعد من بريطانيا في 1917 بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وعندما انتدبت بريطانيا على فلسطين اعتباراً من 1922 فتحت الباب على مصراعيه لتدفق الهجرة اليهودية من كل مكان إلى فلسطين. وكان اليهود المهاجرون هم الذين وضعوا البنية الأساسية للدولة الصهيونية القادمة من زراعة وصناعة وأحزاب سياسية وتشكيلات عسكرية كانت كلها جاهزة عندما أكملت بريطانيا تواطؤها بالانسحاب المفاجئ من فلسطين يوم 14 مايو 1948 مما سمح لقادة الحركة الصهيونية بأن يعلنوا دولتهم في اليوم التالي مباشرة. وسارعت الولايات المتحدة من فورها إلى الاعتراف بالدولة الصهيونية، أما الاتحاد السوفييتي فكان عداؤه للحركة الصهيونية معروفاً منذ قيام الثورة البلشفية في 1917، وظلت الحكومة السوفييتية معترضة على فكرة تقسيم فلسطين على اعتبار أن الحل الأمثل هو دولة واحدة يعيش فيها العرب واليهود إلى أن جاءت اللحظة الأخيرة فصوت المندوب السوفييتي لمصلحة التقسيم ومعه أصوات الدول الاشتراكية في شرق أوروبا التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي. ولولا هذه الأصوات لما صدر قرار التقسيم ولكن الحركة الصهيونية استطاعت في اللحظة الأخيرة أن تخترق دائرة القرار السوفييتي وتقنع ستالين بأنه من المستحيل أن يصوت الاتحاد السوفييتي لمصلحة العرب الإقطاعيين التابعين للغرب ضد قيام دولة اشتراكية ديمقراطية في الشرق الأوسط. وأخيراً كانت إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي قُبلت عضويتها في الأمم المتحدة في 1949 في ظل أزمة العضوية التي تجمد فيها قبول أعضاء جدد في ظل الحرب الباردة التي كانت فيها الدول طالبة العضوية إما مؤيدة للولايات المتحدة فيعترض الاتحاد السوفييتي على قبولها أو العكس فتعترض الولايات المتحدة. أما إسرائيل فكانت الدولة الوحيدة التي حازت رضا الدولتين معاً. جنباً إلى جنب مع الرؤية الاستراتيجية الواضحة تمتعت الحركة الصهيونية بقدرة تكتيكية لافتة، وهكذا على سبيل المثال قبلت بالوعد البريطاني في 1917 لتأييد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين مع أنه لم يكن كافياً لتحقيق هدف الحركة في إنشاء الدولة العبرية، فضلاً عن أنه نص على ألا يؤدي استيطان اليهود في فلسطين إلى أي إجحاف بحقوق الجماعات الموجودة فيها، ولكن الحركة الصهيونية كانت على ثقة كاملة بأنها قادرة على تحويل الوطن إلى دولة وكذلك على العصف بحقوق الفلسطينيين. وعندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية على أن تصبح القدس كياناً دولياً قبلته الحركة الصهيونية على الفور مع أنه لا يعترف بهدفها في السيطرة على أرض فلسطين بالكامل ناهيك عن نص القرار على وضع دولي للقدس، درة المشروع الصهيوني في فلسطين، ولكن قادة الحركة الصهيونية كانوا واثقين من أنهم قادرون على تغيير الواقع ولذلك رضوا بدولة منقوصة من وجهة نظرهم في مقابل الشرعية الدولية التي حققها القرار لهم. وبالمقابل لم تكن لدى العرب استراتيجية للمواجهة اللهم إلا قرارات قمة أنشاص 1946 التي نُفذ بعضها ولم يُنفذ البعض الآخر، لكن حالة الضعف وغياب التنسيق التي كانت الدول العربية تمر بها لتأخر حصول معظمها على استقلال حقيقي جعلت ردود أفعالها على الخطر الصهيوني متأخرة وغير كافية لمواجهة ذلك الخطر، وحتى بعد الهزيمة في حرب 1948 لم يتمكن العرب من اتخاذ الخطوة التكتيكية الضرورية بإعلان دولة فلسطين على ما تبقى من أرضها وكان من شأن هذا الإعلان أن يفتح الباب واسعاً لمطالب مشروعة في مواجهة الدولة الصهيونية غير أن الضفة الغربية آلت إلى سيادة الأردن فيما خضع قطاع غزة لحكم إداري مصري ليضيع كلاهما في عدوان 1967 وتسيطر إسرائيل على كامل أرض فلسطين. ومع كل هذا الإخفاق العربي فإن هناك ما يدعو إلى التفاؤل التاريخي. من ذلك مثلاً أن الحركة الصهيونية لم تتمكن طيلة ما يزيد على القرن في أن تحقق سيطرة مستقلة على أرض فلسطين على رغم كل ما توفر لهذه الحركة من موارد ودعم خارجي. ومنها كذلك أن عام 1967 كان نقطة الذروة في منحنى القوة الإسرائيلية، وبعد تلك السنة أصبح للمقاومة الفلسطينية حضور مؤثر في ساحة الصراع وخاضت مصر بعد إعادة بناء قواتها المسلحة حرب استنزاف ناجحة ضد إسرائيل حتى أن كثيراً من المحللين العسكريين يرون أنها تعد في حد ذاتها حرباً إسرائيلية- عربية رابعة، ثم كان الإنجاز العسكري الاستراتيجي العربي في حرب أكتوبر 1973 ثم أجبرت المقاومة في لبنان إسرائيل على إسقاط الاتفاق الإسرائيلي- اللبناني في 1983 والخروج من لبنان بعد غزوه في 1982 والانسحاب من الشريط الحدودي الجنوبي المحتل في عام 2000 وعقد اتفاقية أوسلو 1993 التي اعترفت فيها إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة لشعب فلسطين، والاضطرار إلى إخلاء قطاع غزة من القوات الإسرائيلية وتفكيك مستوطناتها في 2005 تحت وطأة ضربات المقاومة، والعجز عن تحقيق أهداف عدوانها على لبنان في 2006 وعلى غزة في 2009/2008. وما زالت الطريق طويلة وشاقة أمامنا بطبيعة الحال ولكننا نملك مقومات النجاح وإن كنا بحاجة ماسة إلى استراتيجية جديدة شاملة توظف هذه المقومات بما يمكن من تحقيق هذا النجاح. وإذا كانت الحركة الصهيونية قد نجحت بعد سبعين عاماً من إعلان هدفها في إقامة دولة تسيطر على كامل أرض فلسطين فلنعمل على أن تكون الذكرى المئوية لإنشاء إسرائيل مناسبة لإسقاط دولتها الاستعمارية العنصرية وميلاد دولة ديمقراطية محلها يعيش فيها الفلسطينيون واليهود جنباً إلى جنب.