منذ عدة سنوات, ظل الخبراء يتنبأون بوفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات, ذلك القائد الذي أثبت لهم دائما, أنهم مخطئون في تقديراتهم. غير أن الأنباء التي تواترت مؤخرا عن تدهور وضعه الصحي, أثارت الكثير من الهواجس والمخاوف حول مستقبل السياسة الفلسطينية في مرحلة غيابه. وبالطبع فإن هناك الكثير من الأسباب التي تبرر مثل هذا الخوف. ومما لا شك فيه أن لغياب عرفات, أثرا فادحا على السياسة الفلسطينية في المرحلة التي تعقب رحيله. فمنذ عودته المؤزرة بالنصر إلى الأراضي الفلسطينية منذ حقبة من الزمان, استطاع عرفات أن يحقق إنجازا ما بعده, في احتكار السلطة وإحكام قبضته الحديدية حولها. وقد حقق عرفات هذا الإنجاز من خلال تعيينه لأفراد البطانة الموالية له, في المواقع القيادية المهمة, تزامنا مع تفاديه تعيين أي من السياسيين, الذين ربما ينافسونه على موقع القيادة, أو يخلفه أحدهم فيه.
لا يعني هذا, القول بغياب قادة فلسطينيين يخلفون عرفات. فهناك قلة لا تزال من القادة الفلسطينيين –من بينهم رئيس الوزراء الحالي أحمد قريع ومحمد دحلان, الشخصية العسكرية النافذة في قطاع غزة- وغيرهما ممن لديهم القدرة على تولي المنصب القيادي في السلطة الفلسطينية. غير أن ما من أحد من هذه الشخصيات, يستطيع أن يضاهي عرفات, فيما يمثله من إلهام وطني, ورمزية شعبية في الشارع الفلسطيني. كما لا يتمتع أي منهم بقدرة التشبه بعرفات, فيما يمثله هذا الأخير, من وضعية خاصة وفريدة في السياسة الفلسطينية. ذلك أن عرفات, يجمع بين كونه رئيسا للسلطة الفلسطينية, ورئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية, ورئيسا لمنظمة فتح, التي تمثل التيار السياسي الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكل هذا لا يعني شيئا آخر, سوى أزمة مركبة في عملية خلافة عرفات, في كل هذه المواقع القيادية والهيئات الفلسطينية المختلفة. وسوف تتمخض هذه الأزمة في نشوب نزاعات وصراعات, داخل كل من منظمة التحرير الفلسطينية, ومنظمة فتح, وكذلك السلطة الفلسطينية. وليس مستبعدا أن تهيمن هذه الأزمة على كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
ليس مستبعدا كذلك, أن ينكأ رحيل عرفات, الجرح القديم النازف, في السياسة الوطنية الفلسطينية. نعني بهذا صراع السلطة والنفوذ, بين تيار الحرس القديم في منظمة التحرير الفلسطينية, وأهالي ومواطني الضفة الغربية وقطاع غزة, علما بأن ذلك النزاع, كان بمثابة الشرارة التي اندلعت منها الانتفاضة الفلسطينية الأولى, التي بدأت في أواخر عام 1987. وفي الحقيقة فقد ظلت لعبة شد الحبل السياسي هذه, بين مختلف الفصائل والتيارات, تراوح مكانها لبعض الوقت. غير أنها ظلت بعيدة عن عيون العامة. لكن وعلى إثر رحيل عرفات, فمن الممكن أن يتغير كل هذا الواقع, بما يؤدي إلى بروز المتنافسين علنا في ساحة المبارزة السياسية. وفيما حدث هذا, فليس مستبعدا نشوب ما يشبه الحرب الأهلية بين الفصائل الفلسطينية, في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
الأدعى للقلق والمخاوف, أن التيار الأكثر استفادة من رحيل عرفات, هم العناصر الراديكالية المتشددة, في الأوساط السياسية الفلسطينية. فقد خلفت السنوات الطويلة من سوء الإدارة داخل الأراضي الفلسطينية, فقرا حادا بين المواطنين, وتخلفا تنمويا مريعا. وفي الاتجاه ذاته, عصفت المحسوبية والفساد السياسي بالاقتصاد الفلسطيني, وجعلتا منه اقتصادا كسيحا وعاجزا. أما الخدمات الاجتماعية, فليس لها من وجود البتة. نتيجة لهذه الأوضاع المزرية, فقد تحولت حركة حماس ونظيرتها المتشددة منظمة الجهاد الإسلامي, إلى الجهة الرئيسية التي توفر خدمات التعليم والعلاج وغيرهما من الخدمات الاجتماعية الأخرى اللازمة, التي تجاهلتها السلطة الفلسطينية. وعليه, فقد أصبحت هاتان المنظمتان, مرشحتين للتنافس على مركز القيادة, في مرحلة ما بعد عرفات.
ويذكر أن رئيس الوزراء السابق محمود عباس, قد تولى سلفا منصب نائب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وفيما يبدو, فقد رشح كبار المسؤولين, ثلاث شخصيات من الوزن السياسي الثقيل, هي محمود عباس وأحمد قريع, وسليم زعنون رئيس المجلس الوطني الفلسطيني. ولكن يظل مجهولا حتى الآن, ما إذا كانت معالجات كهذه للأزمة القيادية, سوف تحول دون انحدار السلطة الفلسطينية إلى حالة الفوضى أم لا.
على صعيد آخر, ربما كان غياب عرفات, حافزا لاستئناف الحوار والتفاوض, حول صفقة سلام بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. وقد ألمح كبار القادة الإسرائيليين عن استعدادهم سلفا, للتفاوض مع من سوف يخلف عرفات في موقع القيادة الفلسطينية, شريطة أن يبدي ذلك الخلف التزامه بمكافحة الإرهاب. لكن ومن السهولة بمكان, أن تواجه إسرائيل قريبا, سيناريو أكثر سوءا مما تتوقع, أي بروز جارة مارقة أو فاشلة في حدود أراضيها المباشرة. نظرا لهذه التوقعات, فقد شرع واضعو السياسات في إسرائيل سلفا, في التخطيط لمواجهة سيناريو من هذا النوع. يذكر بهذه المناسبة أن الجيش الإسرائيلي قد أجرى تدريبات عسكرية هذا العام, نفذت فيها مشاهد و