أحد المجالات الجديدة في عالم الطب الحديث، مجال ما يعرف بالتشخيص قبل الحمل (preimplantation genetic diagnosis). وهو عبارة عن فحص يجرى على الأجنة قبل أن توضع في أرحام الأمهات، للكشف عن وجود عيب جيني أو مرض وراثي فيها. ويتم هذا الفحص إذا ما كان هناك مرض وراثي في العائلة، يمكن أن ينتقل إلى الذرية. وغالباً ما يجرى هذا الفحص في حالة إنجاب زوجين لطفل مريض بمرض وراثي، مما يجعل احتمالات إصابة أي مولود آخر لهم بنفس المرض تتراوح ما بين 25% إلى 50% حسب نوع المرض الوراثي. وفي مثل تلك الحالات، تلقح بويضات الزوجة في المعمل، باستخدام حيوانات منوية من الزوج، تماما كما يحدث في عمليات التلقيح الخارجي (أطفال الأنابيب) الشائع استخدامها حاليا لعلاج العقم. ولكن في هذه الحالة، تؤخذ خلية من الجنين الناتج من عملية التلقيح، تجرى عليها فحوص مخبرية خاصة، للكشف عن وجود الجين الوراثي المعيب. وإذا ما ثبتت سلامة الجنين من أية عيوب وراثية، ينقل إلى رحم الأم، كي يتم الحمل ومن ثم الولادة بشكل طبيعي. أما إذا ما ثبت وجود الجين الوراثي المعيب في الجنين، فيتم التخلص منه، وهو ما يضمن عدم الحصول على ذرية مريضة بأمراض وراثية، ويضمن أيضاً عدم انتقال هذه الأمراض إلى الأجيال القادمة.
هذا المجال الطبي الحديث لا زال يخطو خطواته الأولى، وإن كان يتوقع له أن يغير مجرى الطب والعلاج بشكل جذري، وربما مسار تطور الجنس البشري برمته. فعلى سبيل المثال منحت هيئة الإخصاب البشري وعلم الأجنة
(The Human Fertilization and Embryology Authority) في بريطانيا هذا الأسبوع، رخصة لمجموعة من العلماء لفحص أجنة زوجين، يصاب أطفالهما بنوع من أنواع السرطان الوراثي. وتحدث هذه الحالة نتيجة وجود جين معيب، يصيب حامله بمرض خاص (familial adenomatous polyposis)، يتسبب لاحقاً في الإصابة بالسرطان في منطقة القولون أو المستقيم، وقبل أن يتخطى المريض سنوات المراهقة. وإذا ما كان أحد الوالدين حاملا للمرض، فتبلغ احتمالات تمرير الجين المعيب إلى الأطفال الـ50%. وهذا الاحتمال المرتفع في أن يحمل الأطفال جين سرطان القولون الوراثي من آبائهم، كان الدافع خلف قيام الهيئة البريطانية بمنح هذه الرخصة الخاصة لعلماء جامعة (University College).
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتم فيها استخدام هذا الأسلوب لمساعدة زوجين في تجنب ذرية مصابة بأمراض وراثية. فقبل وقت ليس بطويل، منحت هيئة الإخصاب البشري وعلم الأجنة، رخصة لاستخدام هذا الأسلوب لاختيار جنين محدد، وفقاً لتطابقه النسيجي مع أخيه المريض. هذه الحالة التي أصبحت معروفة إعلاميا وطبيا بحالة "عائلة هاشمي"، كانت لعائلة من أصل باكستاني تقطن مدينة "ليدز" البريطانية. هذه العائلة رزقت بطفل ذكر اسمه "زين"، مصاب بمرض دم وراثي (الثلاسيميا). ويمكن علاج هذا المرض عن طريق نقل دم متكرر للمصاب عبر حياته، ولكن مع كل نقل دم يرتفع باطراد تركيز عنصر الحديد في الخلايا، إلى درجة يمكن أن تصبح قاتلة في النهاية. ويعتبر العلاج بواسطة زراعة نخاع عظام جديد أو خلايا جذعية من الحبل السري، هو العلاج الأمثل والنهائي لهذا المرض. ولكن تعيب زراعة نخاع العظام والخلايا الجذعية، ندرة توفر متبرع تتطابق أنسجته مع أنسجة المريض المراد نقل نخاع العظام إليه. وما حدث في حالة عائلة هاشمي، أن العائلة حصلت على حكم محكمة يجيز لها استخدام أسلوب التلقيح الخارجي لإنتاج عدة أجنة من تلقيح بويضات الأم بالحيوانات المنوية للأب، على أن يتم اختيار الجنين المتطابق مع أخيه "زين"، ويتم التخلص من بقية الأجنة. ولكن على ما يبدو أن عائلة هاشمي كانت سيئة الحظ، فبعد أن حصلت على حكم المحكمة، وتم اختيار جنين مطابق نسيجيا لزين وتمت زراعته في رحم الأم، فقدت العائلة الجنين الجديد، بسبب تعرض الأم للإجهاض أثناء الحمل. وبخلاف سرطان القولون الوراثي ومرض الثلاسيميا، منحت الهيئة تراخيص باستخدام أسلوب الفحص قبل الحمل في أمراض أخرى، مثل التليف الحوصلي ومرض هنتجتون.
ولكن رغم الفوائد الواضحة التي يمكن أن تجنى من استخدام هذا الأسلوب، إلا أن الكثير من المعضلات الطبية والدينية والأخلاقية لا زالت تحيط به، ويتوقع لها أن تحيط به لفترة غيرة قصيرة. فمثلا على الجانب الطبي، كانت هناك دائما المخاوف من تأثير الفحص على الجنين. فالفحص يتم من خلال نزع خلية من جسد الجنين، وعمره لم يتعدَّ بعد الثلاثة أيام، وفي الوقت الذي لا يزيد فيه جسده عن مجموعة متناهية الصغر من ثماني خلايا أو أكثر بقليل. هذا التأثير غير المحدد، ربما كان هو السبب في إجهاض السيدة هاشمي لجنينها العزيز! ولكن ما تأثيره على الشخص في المراحل المتقدمة من حياته؟.
أما على الجانبين الديني والأخلاقي، فعن المعضلات والمشكلات الكثيرة، حدث ولا حرج. فبداية، يطرح سؤال نفسه: هل يعتبر التخلص من الأجنة المريضة بأمراض وراثية إجهاضا؟ وما الفرق بينها وبين إجهاض في الشهر السادس أو السابع لجنين اكتشف مرضه بمرض أو عاه