لقد عدتُ لتوّي من أوكرانيا لأجد أنه من العسير عليّ أن أفهم طبيعة العالم الذي أتى أوباما على ذكره في خطابه حول السياسة الخارجية في قاعدة «وست بوينت» العسكرية الأسبوع الماضي. وذلك لأن الوقائع الماثلة على الأرض، في روسيا، وأوكرانيا، وسوريا، وأفغانستان، تتناقض مع أهم التطلعات والآمال التي يعقدها على سياسته. ومن شأن هذا الانفصام عن الواقع أن يدفع أصدقاء وأعداء أميركا في العالم إلى التساؤل عما إذا كان أوباما يحتكم بالفعل للقدرة اللازمة لتبوّء منصب القيادة. وكان أوباما صادقاً عندما قال، إن احتمال تعرض الولايات المتحدة لهجوم من أي دولة أجنبية ضئيل للغاية، إلا أن النظرة الواقعية لهذا العالم ذي وتيرة التغير السريعة، والذي يشهد صعود الصين، وغزو روسيا لجاراتها، وتضاعف خطر الإرهابيين، تثبت أنه فشل في توضيح الأسلوب الأمثل للتصدي لهذه الأخطار. وقد قال بكل وضوح، إنه يعارض العزلة السياسية مثلما يعارض قول البعض بأن لكل مشكلة سياسية حلاً عسكرياً، وقال أيضاً: «لقد جاءت أهم أخطائنا الفادحة التي كنا نرتكبها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من رغبتنا في تبنّي منهج الخوض في المغامرات من دون التفكير بعواقبها وتداعياتها»، وأكد أهمية احترام المعايير والقوانين الدولية وبناء المؤسسات والتحالفات. إن مما يثير الشعور بالامتعاض أن نستمع إلى الرئيس، وهو يردد بكل حماسة شعار الامتناع عن خوض الحروب، وهذا يمثل حجته الواهية لتبرير سياساته، فما من أحد، حتى السناتور جون ماكين، اقترح إرسال جنود الولايات المتحدة إلى أوكرانيا، أو سوريا، أو الإبقاء على ما تبقى منهم في أفغانستان إلى الأبد، وكان عليه بدلا من ذلك أن يقول لنا ما الذي يمكننا فعله حتى نتمكن من تقويض الملاذات الآمنة الجديدة للإرهابيين في الشرق الأوسط، أو حيال مشكلة عودة الإرهابيين إلى أفغانستان، أو كيف نتصدى للسلوك العدواني المتصاعد لموسكو أو بكين والذي يمكنه أن ينشر التوتر وعدم الاستقرار في أوروبا وآسيا؟، وهنا بالضبط تكمن نقطة الضعف في خطاب الرئيس. دعونا نبدأ بمشكلة الإرهاب التي وصفها أوباما في خطاب «وست بوينت» بأنها تمثل التهديد الأكبر للأميركيين، وكان اقتراحه الأساسي لحل هذه المشكلة يقتصر على إنشاء صندوق جديد لدعم الدول الصديقة، من جنوب آسيا وحتى منطقة الساحل الأفريقي، كي تتمكن من محاربة الإرهاب فوق أراضيها. وقد قمنا بهذا العمل من قبل ونقوم به الآن. ولنأخذ مشكلة أفغانستان التي تطرق إليها الرئيس باقتضاب عندما قال، إن الولايات المتحدة أكملت عمليات تدريب مئات الألوف من قوات الأمن الأفغانية، أما الشيء الذي لم يذكره فهو أنه سبق له أن عبر عن ضعف توقعاته باحتمال نجاح هذه الطريقة. وخلال الأسبوع الماضي، وافق أوباما على إبقاء أقل من 10 آلاف جندي أميركي لتدريب الأفغان بعد انسحاب القوات الأميركية المحاربة قبل نهاية العام الجاري، إلا أنه أعلن أيضاً بأن تلك القوات المتبقية سيتم سحبها مع حلول نهاية عام 2016، وتعتمد القوات المسلحة الأفغانية على المساعدات المالية الغربية، ولهذا فإن الإعلان المفاجئ عن سحب القوات الأميركية من هناك يستدعي التساؤل عن مصير القوات الأفغانية ذاتها بعد عام 2016. وهكذا فإن أوباما يرتكب الآن نفس الغلطة التي ارتكبها عام 2009، عندما أعلن عن موعد سحب قواته من أفغانستان، ما شجّع حركة «طالبان» على مواصلة القتال، وينبغي الانتباه إلى أن أفغانستان تمثل تقاطع طرق، فإذا انهارت قوات حفظ الأمن فيها، فسيؤدي ذلك إلى أخطار جسيمة بالنسبة لباكستان النووية التي يتقوّى فيها عود الجهاديين المتطرفين ويزداد صلابة. وإذا ما بقي دعم الولايات المتحدة قوياً، فإن الرئيس الأفغاني المنتخب حديثاً يمكنه الانصراف لمعالجة القضايا الدبلوماسية الإقليمية التي قد تؤدي إلى إعادة الهدوء والاستقرار لجنوب آسيا، فما الذي يبرر الإعلان الآن عن سحب واشنطن قواتها عام 2016؟ وعبر الخطاب عن انفصام مشابه عن الواقع، عندما تطرق للحرب الدائرة في سوريا، حيث ظهرت فصائل جهادية متطرفة جديدة على الساحة، وبدأت تنتشر في العراق المجاور. وهذا الطوق الراديكالي اجتذب آلاف المقاتلين الأجانب، بمن فيهم ثلاثة آلاف مواطن غربي وأكثر من 70 أميركياً ممن سيعودون ذات يوم، وهم يحملون معهم مهاراتهم القتالية الجديدة، وكان بالإمكان وقف هؤلاء الجهاديين عند حدّهم لو لم يتراجع أوباما عن تكليف وكالة المخابرات المركزية بمهمة تزويد الثوار السوريين بالأسلحة الثقيلة قبل سنتين، بعد أن حثّه مستشاروه على هذه الخطوة، وهذا التراجع هو الذي هيأ لهؤلاء المتطرفين فرصة الانتشار في المنطقة. ومما لا يكاد يصدقه عقل أن أوباما مازال متردداً في مساعدة الثوار السوريين المعتدلين الذين يقاتلون الجهاديين المتطرفين، وقال في خطاب «وست بوينت» بأنه سيعمل تحت مظلة الكونجرس على «رفع الحظر» عن دعم المعارضة السورية المسلحة، إلا أن أحد مستشاريه أشار إلى أن المناقشات المتعلقة بهذا الموضوع لن تنطلق إلا بعد بضعة أسابيع أو شهور. ويبدو من خلال هذا التباطؤ أن الإحساس بالحاجة الماسة والسريعة لفعل الأشياء، ومعالجة المشاكل الخطيرة قد اختفى من عقلية الإدارة خلال السنوات الثلاث الماضية، وهذا الانفصام بين القول والفعل هو ما أساء لصورة الرئيس كقائد أمام العالم أجمع.