يرحل الرمز جسداً ويبقى مغروساً فينا نهجاً وفكرة في ملحمة سطرت أروع حالات اختلاط المشاعر لحظة الفراق.
لم يكن زايد "رحمه الله" في حياتنا مجرد حاكم يمتلك السلطة والسلطان، بل كان يجسد بسجاياه وخصاله الحميدة حالة لعلاقة الحاكم بالمحكوم بالوطن، وهي حالة تشبه ما يرد في الأساطير عن الرجال العظام الذين نقشوا سيرهم في سفر التاريخ. لقد كان زايد وسيبقى واحداً من أولئك ونتمنى أن يفتح التاريخ تلكم الصفحات العطرة من سيرته ليقرأها الكون من أقصاه إلى أدناه لرجل آمن وحقق لشعبه ما عجز عنه الآخرون في الزمن العربي المتردي في وطن عربي يرزح في القهر ويمتهن الفقر والهوان.
إن كان زايد الرمز قد رحل جسداً فقد ترك للأجيال أول تجربة وحدوية عربية شامخة، وكيف لا تشمخ مبهرة العالم وهي من غرس رجل بقامة زايد. يرحل الرمز ويبقى الوطن أمانة في الأعناق، وتبقى التجربة مثار الإعجاب بحاجة ماسة إلى من يمسك دفة سفينتها لتبحر إلى موانئ العطاء والخصب.
كان الرمز مبهراً في كل أفعاله وحِكمه ويبقى الأكثر إبهارا ذلك الانتقال للسلطة على مستوى إمارة أبوظبي وعلى مستوى الإمارات، فقد خسر المراهنون كثيرا عندما اعتقدوا أن زايد قد غادر دنيا البشر تاركا السفينة عرضة للعواصف والأنواء وأن حكمته المعهودة قد غفلت عن ترتيب البيت الإماراتي الداخلي.
هذا الانتقال السلس قدم درساً في التجربة السياسية لدولة الإمارات وقدم بعضا من فكر زايد في الحكم وتقاسم السلطة، ونبذ فكرة الاستيلاء على الكرسي والاقتتال على تمزيق الوطن الواحد وها هي نماذج الاقتتال على السلطة ماثلة للعيان في تجارب جمهوريات وممالك عربية كثيرة .
انتقال السلطة بهذه الكيفية مؤشر على نجاح نهج التربية السياسية التي انتهجها زايد الخير وأصر على تحقيقها في علاقاته ضمن الدائرة الصغيرة في الأسرة الحاكمة والدوائر الأخرى في العشيرة والقبيلة والوطن الإماراتي والعالم العربي والإسلامي والمجموعة الدولية وهذا النجاح في الانتقال الذي سد أبواب كل الذرائع وأوصد كل منفذ يمكن أن تدخل منه ريح خبيثة لتشكك في مسيرة الإنجاز الإماراتية .
تشير كل الأدبيات إلى أن ما تحقق للإمارات في عهد زايد الخير كان بمثابة المعجزة التنموية والسياسية والاقتصادية ولأن المعجزات لا تحدث إلا نادرا يبقى التفكير في حماية المنجزات ومواصلة المسيرة على نهج الراحل اختبارا حقيقيا يضعه الوطن وناسه أمانة في عنق صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة وصاحب السمو الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، ربابنة سفينة الخير في الزمن القادم.
إن كانت مشاريع البنية الأساسية قد أنجزت في عهد زايد فإن الحفاظ على المنجز يعتبر تحديا أكبر، ذلك أن النجاح لا يتمثل في الوصول إلى القمة ولكن النجاح الحقيقي هو البقاء على القمة في زمن التحدي الصعب. هذه أطروحات يعرفها أهل السياسة أكثر مني، ولكنني كمواطن عاشق للوطن تمر على خاطري بعض التحديات والاستحقاقات التي يمكن أن تكتب في أجندة صاحب السمو رئيس دولة الإمارات وليمنحنا سموه شرف النظر إلى المستقبل بعين الأمل والتوقع .
على المستوى المحلي هناك أجندة طويلة من الاستحقاقات والأمنيات التي يأمل المواطنون أن تكون مدونة في أجندة سموه يأتي على رأسها موضوع التربية والتعليم، وإصلاح العملية التربوية لتكون متوافقة مع طموحات المستقبل وتحديات عالم الغد، فالاهتمام بإنسان الإمارات على نهج زايد ورؤية خليفة يجب أن يبدأ بالتعليم من الروضة إلى الجامعة. اهتمام يرقى لمستوى الطموح ويحقق الأهداف التنموية ويسخر طاقات الوطن، وهنا يحضرني قول للفريق سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي عندما سئل عن وجهة نظره في ارتفاع أسعار النفط حيث أكد أن العائدات المترتبة على الارتفاع في أسعار النفط الخام ستوجه للصرف على التعليم. وفي حديث سموه إشارات لا يمكن أن تمر مرور الكرام بدون تثمين، فشبل زايد يؤمن بأن المال سيسخر لخدمة أنبل وأهم عملية تنموية في هذا الوطن، وكان هذا الحديث قبل رحيل الرمز بزمن ولكنه حديث يحمل إشارات ويقدم نموذجا على فكر زايد الذي غرس في الجيل الجديد من قادة دولة الإمارات .
الحديث عن التربية والتعليم هو حديث عن التنمية والتنمية في شقها المادي تعني العمران والبناء والمشاريع والمصانع، هذه التنمية تطرح إشكالية أخرى ومصيرية معلق حلها بالقائد الجديد، وهذه الإشكالية مصدرها ذلك العدد الهائل من العمال الأجانب القادمين من آسيا، الأمر الذي يعتبره بعض المحللين خطيرا ومؤشرا على خلل في التركيبة السكانية وضياع للهوية، وثمنا باهظا يدفعه المجتمع برمته، واستبعادا للعنصر المواطن من سوق العمل.
إن مشكلة التركيبة السكانية معقدة وشائكة ولكنها ليست مستعصية على الحل، وتحتاج إلى رؤية جديدة تضع الوطن والمستقبل والمصلحة العامة فوق كل اعتبار، بعيدا عن المصالح الضيقة والنفعية لبعض الفئات، التي استطاعت أن تتكسب من هذه العملية. فا