يبدأ جون بيجلر الصحفي ومؤلف الكتاب الذي نقوم بعرضه في هذه المساحة وعنوانه: لا تخبرني بالأكاذيب، صحافة التحقيقات وانتصاراتها، كتابه بالتنبيه إلى نقطة مهمة وهي أن مصطلح صحافة التحقيقات يعتبر مصطلحا غير دقيق تماما لأن أية صحافة أياً كان نوعها لابد أن تتضمن تحقيقات، تؤدي في النهاية إلى الكشف عن الحقائق المخفية، وأنه قد استخدم المصطلح في عنوان الكتاب على سبيل التمييز بين هذا النوع من صحافة التحقيقات، وبين الأنواع الصحفية الأخرى.
وصحافة التحقيقات هي جوهر العملية الصحافية لأنها تخدم المصلحة العامة للجمهور من خلال قيامها بالكشف عن الأسرار، وفضح الأكاذيب والكذابين، وهو في النهاية السبب الذي من أجله خلقت الصحافة.
وصحافيو التحقيقات كما هو معروف، يعانون من صعوبات جمة وفي بعض الأحيان يخاطرون بحياتهم، لكي يكونوا شهود عيان على الأحداث، ولكي يقوموا بكشف النقاب عن الفساد عملا بالمقولة المأثورة في عالم الصحافة وهي: الخبر هو ذلك الشيء الذي لا يريد شخص ما في مكان ما أن ينشر.
وصحافة التحقيقات بطبيعتها تعني الكتابة ضد التيار السائد، ومواجهة السياسات الجامدة السائدة بل وقلبها إلى النقيض في بعض الأحيان. والصحفيون العاملون في هذا النوع من الصحافة غالبا ما يقابلون بالشك والريبة، وفي أحيان كثيرة بقدر كبير من العدائية، كما ينظر إليهم أحيانا كذئاب ضالة، أو كمصدر للعدوى، ويعانون من التهميش، ويتم وصفهم على أنهم أنانيون لا يبحثون سوى عن مصلحتهم، أو في أسوأ الأحوال خونة، وذلك بقصد التقليل من شأن ما يقومون بكتابته.
ومؤلف هذا الكتاب الذي اختار طائفة من أفضل التحقيقات التي تم نشرها في العديد من كبريات الصحف العالمية، والتي قام بكتابتها طائفة من كبار الصحفيين و المراسلين والمحررين يعتبر هو نفسه نموذجا للتهميش الذي يمكن أن يتعرض له المراسلون والمحررون الصحفيون العاملون في صفحات التحقيقات، حيث تعرض لمعاملة سيئة استمرت لسنوات عديدة سواء في بلده بريطانيا أو في أستراليا بهدف تقويض عمله الصحفي.
وللرجل تاريخ مشرف في كتابة التحقيقات الصحفية على مدار الخمسة وثلاثين عاما الماضية وخصوصا في مناطق مثل تيمور الشرقية، وبورما، وفلسطين، وأماكن أخرى غيرها، وهو تاريخ يجب الاعتراف به حتى عند الاختلاف معه في بعض الرؤى السياسية.
والمعاناة التي سلط الضوء عليها، والفساد الذي قام بتعريته المؤلف يتطلب منا أن نعطي الرجل حقه ونلتمس له العذر أحيانا فيما يقع فيه من أخطاء مهنية أو شخصية. وإذا ما وضعنا كل ذلك جانبا، وركزنا الحديث عن كتابه فسنقول إن هذا الكتاب قد تضمن تحقيقات ومقالات مهمة كتبها ثلاثون من كبار المراسلين والمحررين في الصحافة العالمية الحديثة مثل مارثا جيلهورن، وجيسيكا ميتفورد، وجيمس كاميرون، وإدوارد سعيد، وسيمور هيرش. هؤلاء من الصحافة الحديثة، ومن الصحافة القديمة تتألق جواهر مثل إيد مارو وتحقيقاته التي كانت تذاع من شبكة سي. بي. إس، ويهاجم فيها المكارثية في فترة اتسمت بالإرهاب، وكان العديد من الصحفيين الأميركيين الليبراليين يؤثرون فيها السلامة، ولا يجازفون بتعريض أنفسهم للمخاطر.
يضم الكتاب أيضا التقارير الصحفية التي كتبها ويلفريد بيرشيت من هيروشيما عقب ضربها بالقنبلة النووية الأميركية، والتي كشفت للعالم الحقائق المتعلقة بالأمراض التي عانى منها سكان المدينة عقب انقشاع السحابة النووية التي غطتها بعد ضربها بالقنبلة. ويبين الكاتب كيف قام ويلفريد بيرشيت في ذلك الوقت بتحدي السلطات العسكرية الأميركية، وكيف أصر على الدخول إلى المدينة لكي يكذب زيف الرواية الأميركية الرسمية التي تقول إن الأنباء المتعلقة بانتشار الأمراض في المدينة لم تكن سوى نوع من الدعاية اليابانية.
ومن ضمن المقالات الأخرى التي اختارها المؤلف تلك المقالة المذهلة التي كتبتها ليندا ميلفيرن ضمن كتابها الكاشف والمزعج عن المذابح الجماعية التي وقعت في رواندا، وتلك المقالة التي تمزق نياط القلب التي وردت بكتاب الصحفية الروسية المعروفة أنا بوليتكوفسكايا عن حرب روسيا في الشيشان. وبوليتكوفسكايا كما هو معروف كاتبة تحقيقات، ومراسلة صحفية شجاعة عرضتها شجاعتها في القيام بعملها، إلى مخاطر جمة منها محاولتان لاغتيالها.
ومن ضمن الصحفيات الشجاعات اللواتي ترد أسماؤهن في هذا الكتاب الصحفية أميرا هاس المراسلة الإسرائيلية التي ذهبت عام 1993 كي تعيش وسط الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون تحت الحصار الإسرائيلي في قطاع غزة. وهاس تحظى بقدر كبير من الكراهية والاحتقار في موطنها إسرائيل، ولكنها مع ذلك لا تأبه بذلك، وتؤمن بأنها يجب ألا تقف ساكنة وبلدها يقوم بالتنكيل بهذا الشعب المحروم المسلوب الأرض.
وقام بيلجر بتخصيص القسم الأخير في كتابه لتغطية وقائع الحرب في العراق وهو يضمن هذا القسم التحقيقات التي كتبها بعض كبار المراسلين والصحفيين من بغداد مثل ريتشارد نورتون تايلور، وروبرت فيسك، والصحفي غير المتفرغ فيليستي أربثنوت الذي