أكاد أجزم بأن الوضع السياسي في السودان وتطوره وتعقده الذي لا ينتهي من شأنه أن يثير دهشة كثير من المراقبين وأن يدعو للاستغراب والتأمل، وأن يكون مصدر الحيرة لعدد لا يستهان به من رجال الإعلام العرب والمحللين والمعلقين السياسيين داخل العالم العربي وخارجه.
لننظر الآن إلى الصورة بشكل عام ومتكامل، لنرى مدى تداخلها وتشابك خطوطها وتداخلها.
ففي وقت واحد تقريباً تعقد ثلاث لقاءات ويجري التفاوض والجدل والنقاش بين الأطراف المتعددة من القيادات السودانية في ثلاث عواصم أفريقية في شمال القارة في القاهرة وفي غربها في أبوجا عاصمة نيجيريا وفي وسطها في نيروبي عاصمة كينيا. كل هذا الجهد يبذل من أجل الوصول إلى حل أو حلول لمشكلة أو مشاكل سودانية مستعصية. بعض هذه المشاكل بدأت منذ أكثر من عشرين سنة وهي الخاصة بالجنوب وبعضها يعود عهده إلى اليوم الذي تولت فيه الجبهة الإسلامية القومية زمام الحكم في الخرطوم، وهي تلك التي يمثلها التجمع الوطني الديمقراطي الماعون الأكبر للمعارضين من أهل شمال السودان. أما قضية الجدل الثالثة فهي الخاصة بمنطقة دارفور التي استقر التفاوض حولها الآن في عاصمة نيجيريا.
إن أقدم هذه الأزمات هي المتعلقة بالجنوب، وهذه بدأ التفاوض لحلها قبل أكثر من عامين وما زال متعثراً رغم ما أنجز فيه من خطوات هامة. وقد كا ن آخر قرار هو تأجيل تلك المحادثات حتى ينتهي شهر رمضان.· وتليها القضية الثانية في الترتيب الزمني وهي الخاصة بالعلاقة بين الحكومة والتجمع الوطني الديمقراطي التي تتخذ القاهرة مكاناً لها، بدأت قبل نحو شهرين ثم توقفت لتستأنف مرة ثانية قبل أسبوعين ثم توقفت يوم الثلاثاء الماضي الثاني من شهر نوفمبر دون أن تصل إلى نتيجة أو قدر من الحسم لأهم القضايا، وهذه أيضاً أجلت لتستأنف في الأسبوع الأخير من هذا الشهر. أما الثالثة والخاصة بدارفور والصراع المسلح الدائر فيها وحاجة مئات الآلاف من أهلها للغوث العاجل فإنها ما زالت تتواصل بصورة متعثرة في العاصمة النيجيرية. إن مفاوضات دارفور بين الحكومة وممثلي معارضيها المسلحين تدور تحت رعاية منظمة الاتحاد الأفريقي، ومن ظواهر الخلل والاضطراب التي اعترتها أنها بدأت قبل شهور في العاصمة الأثيوبية مقر قيادة المنظمة الأفريقية، ولكن سرعان ما رفض المعارضون للحكومة الاستمرار في ذات المكان لأنهم يتهمون حكومة أثيوبيا بممالأة حكومة الخرطوم، فكان جدل كثير حول نقل مقر التفاوض إلى أسمرا، ولم ترض الحكومة على ذلك واقترحت طرابلس (ليبيا) وغيرها، وأخيراً كان قبول الطرفين نيجيريا ورعاية رئيسها الذي يتولى رئاسة الاتحاد الأفريقي الدورية.
وإذا كان ما أنجز في مفاوضات الجنوب هو الأوضح فإن ذلك قد يعود لأن الأمر كان تحت رعاية عواصم غربية تتقدمها واشنطن التي تملك وسائل الضغط والإغراء. أما المحادثات الأخرى وأعني تلك التي تجري في القاهرة أو في أبوجا فإن كليهما يفتقد مزايا الضغط الأميركي المباشر. كل هذا يشير إلى أن البحث عن حلول للأزمات السودانية قد يطول قبل تحقيق النجاح .