نحن والتنوير.. وثقافة المجتمع
لقد قامت فلسفة التنوير في الغرب بعد تفكيك العقل في المجتمع، فظهر الاتجاه الاجتماعي، ووضع الإنسان مع الآخر على قدم المساواة. وقد ظهر هذا البعد الاجتماعي للتنوير في المبدأين الثاني والثالث من مبادئ الثورة الفرنسية: الإخاء والمساواة. وكتب «روسو» في «نشأة اللامساواة بين الناس» منتقداً بعض أوجه المِلكية الخاصة، داعياً إلى المساواة. وقد بدأت معظم الاتجاهات الاشتراكية في القرن الثامن عشر سواء كانت خيالية أو طوباوية أو خلقية أو دينية أو إنسانية قبل أن تصبح اشتراكية علمية بعد ذلك بزمن طويل. وظهرت فلسفات التاريخ أيضاً لتحدد قانوناً لحركة الشعوب وتطور المجتمعات.
وقد ظهر في فكرنا الحديث هذا البعد الاجتماعي سواء من الفكر الديني التجديدي عند الأفغاني بتركيزه على هضم الفلاحين حقوقهم ومحاولاته لتوحيد الأمة، وتنوير الشعوب الإسلامية. وحاول الكواكبي أيضاً في «أم القرى» بحث أسباب الفتور في الأمة الإسلامية، كما حاول في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» أن يبث دعوته للحرية ورفض صور الاستبداد ومظاهره. كما ظهر أيضاً في الفكر العلماني عند شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف ونقولا حداد وولي الدين يكن وسلامة موسى وإسماعيل مظهر بالتركيز على قيم الشعب والحرية والديمقراطية والاشتراكية. وكذلك في الفكر الليبرالي الحديث خاصة عند الطهطاوي وتركيزه على مفاهيم الأمة، والدستور، والحياة النيابية، والشورى، والقانون. وقد بلورت الثورات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين هذا التيار باتجاهها في النهاية اتجاهاً اشتراكياً يأخذ في الاعتبار حقوق الفلاحين والعمال.
ولكن ما زال وعينا القومي قاصراً في بعض الأحيان عن إدراك مفهوم الجماعة أو الشعب أو الأمة أو المساواة. وقد يرجع السبب في ذلك إلى غياب الفكر الاجتماعي في تراثنا القديم. ولم تنجح بعض الفرق الإسلامية القديمة حتى الأكثر معارضة منها في صياغة فكر اجتماعي جماهيري يمكن للمسلمين تبنيه. واقتصرت على إقامة جماعات اشتراكية منعزلة على أطراف المدن وفي الفيافي لم يكن لها أي أثر على عامة الناس. وكان من السهل على السلطة الدينية والسياسية إدانتها!
وفي العقائد الأشعرية الموروثة لا نجد في كثير من الأحيان عقيدة اجتماعية. وأقصى ما نجده هو موضوع الإمامة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويركز على الجانب السياسي وبوجه خاص على صفات الحكم وتنصيبه. وفي الفلسفة لم نرث عقيدة اجتماعية وأقصى ما لدينا في «الشفاء» لابن سينا هو حديث عن الأسرة والأحوال الشخصية أو عن المجتمع ثم التركيز على صفات الحكم وترك النظام الاجتماعي كله. كما نجد عند الفارابي أيضاً حديثاً عن «المدينة الفاضلة» التي تقوم على التفاوت الطبقي طبقاً لمراتب الكون وطبقاً للقدرات الفردية، على نحو فلسفي يكون المفكرون فيه أعلى من العمال والفلاحين والصيادين، وذلك لأن الفضائل النظرية أكمل من الفضائل العملية. فإذا ما اختلف العمال والفلاحون أو خرج أي جزء من المدينة على هذا النظام الأبدي يجب بتره ولفظه خارج المدينة.
وفي أصول الفقه ظهر البعد الاجتماعي في المعاملات وكأنها علاقات بين أفراد من دون ظهور لمفهوم الجماهير أو حقوق الأمة. وإن حضرت الأمة فهم في الغالب، الخاصة، ومهمتهم معرفية خالصة في الاستدلال على الأحكام وليست مهمة عملية في قيادة الجماهير.
أما التصوف فاقتصرت الجماعة فيه، كذلك أيضاً في بعض الحالات، على علاقة الشيخ بالمريد، أي علاقة بين فردين، أو على الصحبة والسفر والسماع داخل الطريقة التي يترأس فيها رجل الدين على جميع المريدين والتي قد يدين فيها المريدون له بالطاعة والولاء المطلق من دون اعتراض أو حتى سؤال.
وقد تركنا مواطن القوة في تراثنا القديم وفي كتابنا الذي يمد وعينا القومي بقوالبه الذهنية وبمكوناته النفسية. وفي الإسلام كثير من صور التكافل الاجتماعي، وما بين يدي الإنسان وديعة عنده. له منها حق التصرف والاستثمار والانتفاع ولكن ليس له حق الاحتكار التجاري عن غيره. وللدولة المسلمة حق التأميم والمصادرة طبقاً للصالح العام. ووسائل الإنتاج العامة لا تكون خاصة، بل عامة مثل الزراعة (الماء والكلأ) والصناعة (النار). وقد جعل الإسلام للفقراء حقاً في أموال الأغنياء (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). كما جعل المجتمع المسلم مجتمعاً غير طبقي، وجعل للفقراء والمحتاجين سبل تكافل وتضامن من قبل الموسرين في مجتمعهم.
ولكن حتى الآن ما زال عندنا بعض من لا يفهمون مرامي ومقاصد توفير الدولة في مصر للأجواء الملائمة للنشاط الاقتصادي الحر، وما زال آخرون يتحرجون من توسيع حدود المِلكية العامة، مؤثرين تشجيع أوجه الملكية الخاصة فقط، ورفع أيدي الدولة عن التوجيه الاقتصادي، وربما يريد آخرون تصفية القطاع العام، وقد يتهمون كل من يحاول إقامة المجتمع اللاطبقي أو يحاول تذويب الفوارق بين الطبقات بأنه شيوعي ملحد! ولا عجب إن كان مصير ثوراتنا الاشتراكية في النصف الثاني من القرن العشرين أبشع أنواع التراجع، فقد ظلت الاشتراكية على مدى ربع قرن على هامش وعينا القومي في حين ظل جوهره في النشاط الاقتصادي الحر الذي ازداد قوة ليس فقط بما ورثناه من تراكمات ثقافية قديمة ولكن بالتوحيد بينه والعقيدة الدينية في فهم البعض في مواجهة ما يروجه بعض منظري الغرب، من اتفاق الرأسمالية وحدها مع الدين وعداء الاشتراكية له. وطالما ظل وعينا القومي يسقط المجتمع من حسابه لحساب الفرد فإننا سنظل دون مرحلة التنوير.