ملامح شخصية
جوكووي: رئيس «الحلم الإندونيسي»!
لم يكن اختيار رئيس لإندونيسيا بالعملية اليسيرة والسهلة، ليس فقط لكونها رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان (وهي البلد الإسلامي الأكبر)، أو لمساحتها التي تناهز مليوني كيلومتر مربع موزعة على 17500 جزيرة.. ولكن أيضاً بسبب التعقيدات التي طالما طبعت تاريخها السياسي الحديث وجعلت الحكم فيها حكراً على النخبة العسكرية والسياسية المهيمنة. لكن أخيراً جاء من خارج هذه النخبة رئيس جديد لإندونيسيا هو جوكو ويدودو الذي فاز بانتخابات الشهر الماضي. فقد أعلنت لجنة الانتخابات الإندونيسية يوم الثاني والعشرين من يوليو المنصرم فوزه في الانتخابات الرئاسية بحصوله على نسبة 53.15 في المئة من إجمالي الأصوات البالغ عددها 130 مليون صوت في الانتخابات المنظمة يوم التاسع من الشهر ذاته، ليصبح الرئيس السابع لإندونيسيا. وقد صُنِّفت تلك الانتخابات باعتبارها الأشد تنافساً والأكثر احتداماً في تاريخ إندونيسيا، وقد خاضها ويدودو ضد الجنرال السابق برابو سوبيانتو الذي وعد بقيادة قوية، مما أعاد للأذهان العقود التي عاشتها البلاد في ظل الحكم السلطوي. وبعد إعلان فوزه، خاطب ويديدو أنصاره من ميناء في أطراف العاصمة جاكرتا، لتأكيد التزامه بتعزيز القدرات البحرية لإندونيسيا، حيث وصل مع نائبه المنتخب «يوسف كالا» على متن زورق سريع، وقال: «نطالب الناس بكل تواضع.. بالعودة إلى إندونيسيا موحدة»، ووعد بجذب الاستثمارات، وتعزيز البنية التحتية المهلهلة للبلاد، وبإلغاء اللوائح المعرقلة، وإقالة أي مسؤول لا تثبت أهليته لمنصبه.
ويشغل جوكو ويدودو، والمعروف باسمه المختصر جوكووي، منصب حاكم جاكرتا حالياً، وقبل ذلك كان رئيساً لبلدية سوراكارتا. ويبدو أن صعوده جاء انعكاساً لميل الناخبين إلى تأييد القادة «الجدد» أصحاب السجلات «النظيفة»، سعياً لتجاوز الوجوه والممارسات «القديمة» في الحياة السياسية الإندونيسية. وقد ارتفعت شعبية جوكووي بشكل ملحوظ وهو حاكم لجاكرتا، وبدأ ينظر إليه في عام 2013 باعتباره المرشح المحتمل لحزبه في الانتخابات الرئاسة الإندونيسية لعام 2014، وأعلن ترشحه لها رسمياً في مارس الماضي.
يتحدر جوكووي، المولود في عام 1961، من الجاوية، وهم مجموعة عرقية وطنها الأم جزيرة جاوة الإندونيسية، ويقدر عددهم بنحو 90 مليون نسمة، لذلك فهم أكبر مجموعة عرقية في إندونيسيا كلها. وهو الابن البكر لأبويه. وقد جاء والده من قرية كارانجانيار، وقبل ذلك جاء أجداده من قرية بوييوالالي، وتلقى تعليمه في المدارس الحكومية التي غالباً ما يدرس فيها أبناء الفقراء. وبسبب فقر عائلته اضطر للعمل خلال دراسته الابتدائية. وفي سن الثانية عشرة، عمل في ورشة للنجارة مع والده. ويعتبر جوكووي أن طفولته أثرت في طريقة تفكيره وأسلوب قيادته لاسيما حين أصبح عمدة لمدينة سوراكارتا، حيث عمل على تنظيم السكن لمصلحة الغالبية الفقيرة فيها.
وتلقى جوكووي تعليمه العالي في كلية الغابات بجامعة «غادجاه مادا»، حيث تخصص في دراسة بنية الأخشاب، واستعمالاتها، وتقنياتها، وحصل على شهادة الماجستير عن أطروحة بعنوان «دراسة حول الخشب الرقائقي المستخدم في بلدية سوراكارتا».
وبعد تخرجه في عام 1985، التحق جوكووي بإحدى الشركات العاملة في الأخشاب، لكنه لم يشعر بالانسجام مع سياستها، فغادرها وأنشأ في عام 1988 شركة مختصة في صناعة الأخشاب أيضاً، لكنها سرعان ما تعثرت وتم إغلاقها. ثم أعاد المحاولة في عام 1990، برأس مال اقترضه من والدته.
وفي عام 2005 بدأ ينافس على منصب عمدة سوراكارتا، لكن كثيرين شكوا في قدرة رجل الأعمال الناشط في مجال العقارات والأثاث؛ بيد أنه سرعان ما أظهر نجاحاً في العديد من المجالات وحقق الكثير من الإنجازات التي أصبحت محل ثناء واسع على الصعيد الوطني. وقد اتسم أسلوب قيادته بالحرص على تطوير علاقة تفاعلية مع سكان سوراكارتا، كما اعتمد خططاً لتطوير المدينة جعلتها تشبه إلى حد كبير مدن الدول المتقدمة. وقد شهدت السنوات السبع التي أمضاها رئيساً لبلدية سوراكارتا بناء الأسواق التقليدية الجديدة، وبناء ممرات واسعة للمشاة، وتنشيط الحدائق، وانتهاج سياسة صارمة ضد قطع الأشجار، وتوسيع وسائل النقل العام، وإنشاء برنامج تأمين للرعاية الصحية، وجعل من سوراكارتا مركزاً للثقافة الجاوية وللسياحة، وقام بتعزيز دورها كمركز للاجتماعات والمؤتمرات والمعارض، وحظر على أفراد أسرته تقديم أي عطاءات لمشاريع في المدينة.
وبسبب النجاح الذي أحرزه جوكووي في سوراكارتا، تم ترشيحه من قبل حزبه، «الحزب الديمقراطي للنضال الإندونيسي»، لمنصب حاكم جاكرتا في عام 2012، مع «باسوكي تجاهارا بورناما» كنائبة له. وقد فاز بهذه الانتخابات أمام الحاكم المنتهية ولايته «فوزي بوو». وأصبح جوكووي حاكماً نشطاً لجاكرتا، وواصل ممارسته السابقة حين كان حاكماً لسوراكارتا، لاسيما زياراته المتكررة والمفاجئة للمجتمعات المحلية والمناطق الفقيرة في أنحاء جاكرتا، حيث كان يحرص على ارتداء ملابس بسيطة وقضاء وقته في الأسواق والسير عبر الأزقة الضيقة والتحدث مع الناس حول قضايا مثل أسعار المواد الغذائية، وصعوبات السكن، والفيضانات الموسمية، ومشكلات النقل المحلي.. مما ساعد على رفع شعبيته في جاكرتا وباقي أنحاء إندونيسيا.
وتبنى جوكووي نظاماً جديداً لاكتتاب الموظفين يتسم بدرجة عالية من الشفافية، وأنشأ برنامجاً للرعاية الصحية الشاملة في جاكرتا، وأطلق برنامج «سمارت جاكرتا» لمساعدة الطلاب الفقراء في العاصمة. وفي أكتوبر 2013، افتتح أشغال مترو أنفاق جاكرتا الذي كان قد تأخر العمل فيه لسنوات، وأشرف على إعادة تشغيل الخط الأخضر بين جاكرتا ومونوريل.
وعلاوة على ذلك فقد كان للرئيسة السابقة ميغاواتي سوكارنوبوتري دور في اختيار جوكووي ليكون مرشح حزبها لانتخابات الرئاسة. وعقب اختياره مرشحاً عن الحزب، سافر عبر أجزاء واسعة من إندونيسيا للاتصال بالناخبين والتحدث إلى الناس، حيث عرض برنامجاً انتخابياً يعد بالكثير ويوائم بين الاهتمام بمصالح الفقراء ومراعاة الشروط اللازمة لتشجيع الاستثمار.
وإثر إعلان فوزه، قال ويدودو إنه بعد عقود من السلطوية والفساد، يصعب على كثيرين أن يتوقعوا أن شخصاً من الطبقة الدنيا يمكن أن يصبح رئيساً لإندونيسيا، وقارن فوزه بفوز أوباما في الولايات المتحدة قائلا: «هناك الحلم الأميركي، وهنا لدينا الحلم الإندونيسي». وبالفعل فإن جوكووي يعد أول رئيس إندونيسي لا ينتمي للجيش ولا يتحدر من النخبة السياسية، ولعل ذلك أحد مقومات البعد الديمقراطي في «الحلم الإندونيسي» كما يراه!
محمد ولد المنى