لا أعلم إنْ كانت مأساة العالم الذي نعيش فيه تكمن في أن الحكم كثيراً ما يستقر في أيدي من لايملكون السلطة، ليديرها الأشقياء أصحاب الملفات والأجندات الخاصة من خلف الكواليس، وهم من يريدون أن يقنعوا الشعوب بأن الولاء والانتماء للأشخاص فوق مصلحة الوطن، وارتكاب الحماقات لجعل الدول في مصاف الدول الفاشلة، أو لنصرة تنظيم أو مجموعة لتسيطر على دولة ودول أخرى، وتختلق الفتن على حدودها وفي الداخل وتستهدف أمنها الوطني، وغيرها تشن عليها حرباً نفسية وإعلامية، ولم تكتف بذلك بل تفخر بدعم النبرات والتيارات الانفصالية، ودعم الميليشيات والإسلام السياسي الحركي، وكل ذلك يصب في مصلحة تفكيك المنطقة، فلمن يعملون؟ ولماذا وكيف يفكرون؟ فالطوفان عندما يأتي لا يفرق بين منزل وآخر ويغرق الجميع. وما هي الحكمة من احتضان وقبول تنصيب ملك يمنحها دور مستشار الملك الأوحد الذي لا يستغنى عنه، مقابل تمتع المستشار بحرية في إدارة ثرواته الخاصة، وزواج عرفي بين السلطة السياسية الدينية الحركية والسياسية الدينية القومية، وبين السلطة الإمبريالية العالمية لضمان عدم لمس مصالح شهبندر التجار المقرب من الملك، والذي سيضمن للمك بدوره ممراً آمناً لمبتغاه طالما أنه لن يُصاب بأذى، وما لا يعرفه أنه هو أول القائمة في حسبة الملك متى ما فرغ من غيره. ويؤسفنا أن يعتقد الكثيرون في عالمنا العربي أن السياسات القطرية تعد عدواناً صريحاً على مصالح الشعوب العربية وأمنها القومي، وأكبر ممول للإرهاب السياسي المرتبط بالعنف والإقصاء، ولكن ما الذي أوصلنا لهذه المرحلة؟ وما هي مثلاً مصلحة الشعب المصري في عدم الاستقرار وإبطاء عجلة التنمية؟ لأن الممارسات القطرية السياسية ترى أحقية الإسلام السياسي بحكم مصر، وبهذا المنطق هي تضع مصلحة الشعوب كآخر ما تفكر فيه ولا تضع اعتباراً وقيمة لحياة البشر وتمكينهم من خلال الاستقرار السياسي والاقتصادي لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن يبدو وكأنه لا يملك دفة الأمور بيده وقراراته متخذة له مسبقاً يجب أن لا يلومنا إنْ رأينا خللاً في تلك المنظومة، ومما يزيد الأمور سوءاً تحركات دبلوماسية وسياسات خارجية من دون جدول أعمال وطني حقيقي. وإنْ سألت أي قطري، هل أنت راضٍ عن سياسات دولتك الخارجية، في الغالب لا يجيبك خجلاً وولاء لقيادته، وهو أمر نفهمه ونحترمه، ولكن كيف تسير السياسات الخارجية للدول من خلال آراء وقناعات شخصية منفردة، مما أدى للفشل في تحقيق التوازن في قائمة الأصدقاء والأعداء، وإدمان مفرط غير معالج للمغامرات البوليسية السياسية من سوريا إلى العراق إلى مصر إلى اليمن إلى السودان إلى ليبيا وتونس. فمن يقول إن مصلحته تأتي أولاً بغض النظر عما يصيب الآخرين بكل أدب ودبلوماسية، لا يتوقع بكل وقاحة أن يبتسم في وجهه الآخر، كما أن الإفراط في الديناميكية وتغليب البراجماتية المطلقة لن يحول حُلم تحوله إلى فاعل إقليمي رئيسي إلى حقيقة، بل إلى كابوس دائم، وسيخيب رهانه على مخطط أن التغيير السياسي الإسلامي الحركي قادم لا محالة، وفزاعة الغوغائية هي التي تسيطر على الشعوب وتحركها. وفي المحصلة النهائية النخبة أو الجماعة المنظمة هي من تحكم فقط، ولا يوجد أحد أفضل تنظيماً وتسليحاً كميليشيا من الجماعات الإسلامية بجانب رغبة القوى العظمى في تقسيم المنطقة، وهو تصور بعيد عن الاستشراف المنهجي للمستقبل في ظل معدل أعمار السكان في العالم الإسلامي والوعي والمشاركة السياسية التلقائية الذي فرضها العالم الافتراضي، كحقيقة يجب أن تتعامل معها الحكومات بحكمة وحرفية معرفية نوعية كأهم العوامل التي ستعيد كتابة تاريخ العالم وليس المنطقة فقط. ومن حق قطر البت في المسائل التي ترتبط بحقها السيادي، دون أن تستخدم تلك الأوراق للضغط على الجيران وتهديد أمنهم في العمق، وهو الأمر الذي يستحيل أن يصمتوا حياله أو يقبلوا الاعتذار بشأنه من المتسببين فيه بالتحديد، وأما علاقتها مع إيران فنحسبها طبيعية بالمنطق الدبلوماسي والاقتصادي، وهو حال السياسة وديمومة الحياة والمصالح المشتركة، ولكن ليس بالمنطق السياسي والأمني المنفعي، فهي تتقاسم حالياً معها حقل الشمال كأضخم حقل للغاز في العالم، وأي خلافات قد تعرقل إنتاج الغاز فيه، وهي على بعد 120 ميلا منها، ونحن نعرف مدى اعتماد اقتصادها الكبير على الغاز، وكونها تواجه تهديداً مباشراً من أي انتقام إيراني في حال شن الغرب هجوماً على إيران أو إسرائيل. فهل مشاركة قطر النشطة والمتحمسة في الشؤون الإقليمية تأتي بداعي جنون العظمة الوهمية، أم هي جزء من استراتيجية محكمة تصب في مستقبل استقرار الدولة القطرية، وإنْ كان الأمر كذلك فيجب أن نوضح أن آثار تلك المشاركة- بصبغة ضابط الاستخبارات المحترف وليس الدبلوماسي النشط- سلبية على سياسة وأمن واستقرار المنطقة، وهو ما نحذر منه. ومن جهة أخرى، وبعيداً عن سيناريو تمويل وسائل الإعلام الغربية ومراكز التفكير والبحوث للهجوم على شقيقاتها من الدول الخليجية، فإن ما تقوم به العديد من وسائلها الإعلامية الرسمية وغير الرسمية في العالم الافتراضي والتي تعمل بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، أمر معيب بحق منظومة مجلس التعاون الخليجي. ولا نبرئ عناصر بعض الدول الخليجية الأخرى من ذلك، وهجوم افتراضي مسلح يتراوح بين شن حروب شائعات مكثفة وغسيل مخ إسلاموي تنظيمي مبرمج وجرعات تخدير سياسي مغيبة لعقل المشاهد المحلي والعربي في غياب الموضوعية، ووفق أجندات ضيقة، هو أمر غير مقبول بالعرف الاجتماعي والسياسي بين الأشقاء، ناهيك عن جيوش حسابات مواقع التواصل الاجتماعي التي تتهم بأنها تُزور الوقائع والحقائق، وتُلون الأحداث حسب توجه الأجهزة التي تقف خلف هذه الحسابات لتجيش الشعور العام، كما يعتقد أنه تم تجنيد عناصر غير خليجية لها حسابات وهمية عديدة لتشويه صورة شخص أو نظام أو دولة أو مجتمع أو مذهب، وكأن الصراعات الافتراضية لا تهدد تلاحم وتماسك الشعب الخليجي والعربي، بجانب إقحام الدين في كل ذلك الإسفاف. إرادة الشعوب ليست للبيع والشراء، وليست جزءاً من الصفقات السياسية، وولاء الشعوب للأرض قبل الفرد، فهو ذاهب وهي باقية. والرسالة لمن يظنون أن من يديرون هذه اللعبة سيغيرون أي شيء في سياساتهم، هي أنه يجب عليهم مراجعة حساباتهم مجدداً بمنطق، وحكم موقع قطر الجغرافي وتحدياتها الحدودية، وحاجة قطر للاحتفاظ بسلاح المذهب وتأجيج الأقليات ودعم التنظيمات السرية المعارضة في دول الخليج، لحماية مصالحها بمنأى عن منظومة مجلس التعاون الخليجي كواقع ميداني مرير ومؤسف بعيد كل البعد عن كونها قطعة من جسد واحد، ولا بد من تحكيم العقل والجلوس على طاولة النقاش بشرط أن يخرج الكل منتصراً. وقبل ذلك، تحتاج سياسة قطر الخارجية لـ«قرصة أذن» دبلوماسية وسياسية مؤلمة هذه المرة لتدرك أن تجزئة الأمن الخليجي هو خراب للجميع، والمصالح الإمبريالية لن ترحم أحداً، ومجلس التعاون الخليجي سيكون أمام خيار مصيري. إما الاتحاد الكلي وإما إعادة ترتيب البيت بمن يرغبون فعلاً أن يكونوا جزءاً منه بعيداً عن العاطفة. فالموقف لم يعد يحتمل المجاملات، ونعم نحن مع قطر وهي جزء لايتجزأ منا ونقف معها في الضراء والسراء، ولكننا لسنا مع سياساتها التي تنتهك سيادة ووحدة أراضي شقيقاتها من دول الخليج والعالم العربي.